من الذاكرة: مجالس مسبقة الصنع
إن من نقاط الضعف التي اعترت مجتمعنا منذ عدة عقود، أن الحركة السياسية متخلفة عن حركة الشارع وأهم أسباب ذلك هو تدني مستوى الديمقراطية عن متطلبات التطور، عن ما يتطلبه الواقع، هذا الأمر الذي تراكم خلال المرحلة السابقة.
والذي أعاق ويعيق اليوم الحركة السياسية التي تسعى إلى العودة بفعالية لتستطيع التفاعل معه وإدارته. والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل متابع: هل ما حدث وليد تخبط في العمل السياسي أم أنه نتاج تخطيط ومنهج تحكم بالأوضاع وأوصلها إلى ما وصلت إليه؟ وأعتقد أن الإجابة عن ذلك تستدعي العودة بالذاكرة وابالبحث في الوقت عينه إلى مجريات الوقائع على الأرض، والوثائق اليوم في متناول أيدي كل من يعمل في مجال السياسة إن أراد. وبدوري أعود معكم أيها القراء الأعزاء إلى استعراض سريع لتاريخنا المعاصر فكلنا قرأ وسمع ووعى أبرز وأهم أحداث نضال شعبنا ضد الاحتلال الفرنسي منذ معركة ميسلون الخالدة وبطلها القائد الوطني يوسف العظمة، ومن ثم معارك الثورة السورية الباسلة وأبطالها الميامين المعروفين والمجهولين ثم كيف تم الجلاء بعد أن قرعت الأيدي المضرجة بالدماء باب الحرية الحمراء.. وعمت البلاد من أقصاها إلى أقصاها مهرجانات النصر والفرح والعزة والكرامة ولكن ذلك الفيض من مشاعر البهجة بالانعتاق من ربقة الاستعمار تحول بعد سنوات ثلاث فقط إلى كابوس من الحزن والقهر حين استطاع العسكريون الانقلابيون الإمساك بزمام الأمور لتنفيذ مهام «كلفوا» بها، لتبدأ من جديد قصة الظلم والاستبداد.. لكن شعبنا العظيم وجيشه البطل أعادوا للوطن كرامة التحرر الفعلي، ورفرفت رايات الحرية والديمقراطية من جديد.. ومن مخزون الذاكرة الحية أستعيد ذكريات الأحداث التي رافقت العديد من «الحملات» الانتخابية وأولها انتخابات البرلمان عام 1954 وكنت حينها في السابعة عشرة من عمري، وعشت سنوات أربع بعدها تنشقت فيها كما شعبنا بأكمله عبير الديمقراطية والتقدم الاجتماعي وصمود الوطن في وجه الأحلاف والطامعين والغزاة والصهاينة والظلاميين ولي الشرف أنني شاركت عام 1957 في انتخابات دمشق لملء شاغر في البرلمان ففاز المرشح الوطني رياض المالكي على مرشح الرجعية العريق مصطفى السباعي المرشد العام للإخوان المسلمين، وبذلك أثبتت دمشق كما أثبتت حمص حينها وبقية مدن سورية البطلة هويتها ووجها الوطني الأصيل ثم جاء «عهد» الوحدة بين سورية ومصر.ليقود حكاية التسلط وقمع الحريات، ولتعاود مهزلة الانتخابات في عهد الديكتاتورية العسكرية أيام العقيد أديب الشيشكلي وفوز حزبه حزب التحرير العربي بعموم مقاعد المجلس ثم تتابعت حلقات مسلسل التحكم عن قرب وعن بعد بالانتخابات لمصلحة الحاكمين والمتمولين.. ومن تلك الحلقات ولعلها «الأشوى» أي الأقل في تمظهر «التحكم بالانتخابات المسبقة الصنع انتخابات عام 1973» وكانت الأولى في طرح الغوتا الانتخابية ثم تتالت الانتخابات النيابية والمحلية وفي المنظمات الشعبية المسبقة الصنع والتصميم، والتي أحسن التعبير في تصويرها أديبنا ورفيقنا الراحل الأستاذ عبد المعين الملوحي بقوله: في كل الانتخابات المحترمة في العالم ينتظر الناس فرز أصوات المقترعين ليعرفوا النتائج النهائية للانتخابات وأسماء الفائزين إلا عندنا فنحن نعرف الفائزين قبل بداية المعركة الانتخابية، هذه الانتخابات التي أفرزت مجالس لا تعبر بصدق عن شعبنا وطموحاته ومطالبه والدفاع عن حقوقه ــ إلا فيما ندر ــ وهذا أيضاً ما عبر عنه الشاعر هاشم الخطيب في تصويره «للمجالس» بقوله مخاطباً الحاكم:
هاهم كما تهوى فحركهم دمىً
لا يفتحون بغير ما تهوى فما
إنا لنعلم أنهم قد جمعوا
ليصفقوا إن شئت أن تتكلما
ووعدتنا لتقيم مجلس أمةٍ
حراً، فصدقنا وقلنا ربما
وفجمعت أمتنا بمجلسها الذي
سيقوا إليه موافقين ونوما