حَرقُ الكُتبِ والمكتبات وتدمير مراكز العلم والثقافة..!
يشكل استقطاب العقول واستنزافها أحد مصادر النهب الاستعماري الأساسية تجاه دول العالم الثالث، أي دول الجنوب الفقيرة،وكذلك محاولة تشويه أي فكرٍ تنويري ونهضوي وعلمي فيها، بالإضافة لقمعه بشتى السبل بالتعاون مع حلفائها من الأنظمة الرجعية والدكتاتورية.
كما تعمل على (احتكار) العلم ونشر الفكر الظلامي والرجعي والتكفيري..وهذا ليس جديداً. ويذكر لنا التاريخ ما تقوم به القوى المهيمنة من قمعٍ،كالذي تعرض له سقراط بإجباره على تجرع السم ومعاناة وإحراق كتب ابن رشد، وتقطيع ابن المقفع واتهامه بالزندقة، وما تعرض له الإمامان أحمد بن حنبل وأبو حنيفة النعمان والحلاج وصولاً إلى اغتيال حسين مروة ومهدي عامل وفرج فوده، إلى ما تعرض له نصر حامد أبو زيد من إهدار لدمه وتطليقٍ لزوجته منه من القوى التكفيرية،مستخدمين بذلك كل أدوات القمع الدينية والدنيوية .. إدراكا منها لدور المعرفة والفكر في كشف حقائق الاستغلال والقمع..
وحرية الفكر وحقّ التعلم من الحقوق الإنسانية التي تحث عليها وتشرعنها أغلب القوانين الدينية والدنيوية المحلية والدولية وإن بنسبٍ متفاوتة،أو اختلاف درجة التطبيق،وإذا كان السوريون قد نالوا جزءاً مهماً منها في العقود الماضية نتيجة نضالاتهم وتضحياتهم،وخاصةً في مجالات التعليم بمختلف المراحل،رغم أن الفكر التقدمي تعرض للقمع والتهميش وغياب ديمقراطية التعليم واحتكار العمل السياسي بين الطلاب لحزب البعث فقط،بل وحتى العلم عبر استثناءات لا محدودة،بينما توفرت للقوى الدينية كثيراً من الظروف المادية والمعنوية والحرية،أمّا في السنوات العشر الأخيرة فقد سببت السياسات الليبرالية الاقتصادية الاجتماعية وممارسات قوى القمع والفساد مزيداً من الفقر البطالة والتهميش وتغييب الحريات الديمقراطية،وما طُبّق من السياسات التعليمية وتراجع الدولة عن دورها حرم عشرات الآلاف من الشباب من فرص التعليم الجامعي والمتوسط، وإهمال البحث العلمي،ناهيك عن ارتفاع أسعار مستلزمات التعليم وتكاليفه، مما سمح في إيجاد الأرضية الخصبة للفكر المتطرف وانتشاره..وساهم في انزياح الوعي الجماهيري وفجوة وغربة بين الدولة والمجتمع، حيث اعتبار كل ما يتعلق بالدولة وبنيتها يجب تدميره..
ومنذ انطلاق الحركات الشعبية السلمية،أدى التراكم والتهميش السابق،والقمع العنيف لها وتغلغل القوى الظلامية فيها بدعم من الدول الامبريالية والرجعية إلى حرف الحركة عن مسارها السلمي ومنع تطورها إلى حركات ثورية ودفعها إلى العنف واستخدام السلاح وخاصةً في سورية..
وفي ظلّ تفاقم الأزمة التي تشهدها سورية بعد سنة وعشرة أشهر..هناك كثير من القوى والمواقف والفتاوى تتوافق مع ما يذكره لنا التاريخ من قمع وممارسات ظلامية وربما أكثر،كما ترفض الحلول السياسية والعلمانية والديمقراطية والحوار وتدفع إلى مزيدٍ من التطرف والعنف..ومنها على سبيل المثال:
قام بعض المتظاهرين في دير الزور بحرق كتب المفكر الإسلامي محمد سعيد رمضان البوطي باعتباره موالياً للنظام، وقد نبهنا إلى خطورة ذلك بغض النظر إذا كنّا نتفق أو نختلف معه في الفكر أو المواقف،وأنّ هذا العمل سيقود إلى التكفير والعنف وجاءت بعض الفتاوى الخارجية العرعورية والقرضاوية وغيرها لتصبّ الزيت على النار، وكلّها لإحراق سورية شعباً ووطناً..
وما نشهده من تدميرٍ وحرقٍ وسرقةٍ للمنشآت العلمية والتعليمية والثقافية من مدارس ومراكز ثقافية والكليات الجامعية، كما حدث في مدارس وجامعة الفرات في دير الزور،وحتى المتاحف والمناطق الأثرية نالها ما نالها،ويتحمل مسؤولية ذلك الطرفان قوى العنف والظلام وقوى القمع والفساد..وهذا يبين لنا حجم المأساة،فبعض هذه المنشآت احتاجت إلى عشرات السنين لبنائها وكلفت عشرات المليارات من أموال الشعب،وستحتاج أضعاف ما كلفت من جهد ومال ووقت لإعادة بنائها،وبعضها صنعه الشعب بعرقه ودمه منذ مئات بل وآلاف السنين وهي تمثل تاريخه وحضارته وربما لا يمكن استعادتها وبناؤها من جديد.. بل وطال الأدباء حيث قتل الأديبين عضوي فرع اتحاد الكتاب في دير الزور إبراهيم خرّيط ومحمد رشيد رويلي بدمٍ بارد،كما طال الطلاب وآخرها المجزرة التي تعرضت لها جامعة حلب وذهب ضحيتها أكثر من 80 شهيداً عدا المصابين والجرحى والخراب والتدمير..
كما طال الدمار والحرق المكتبات الشخصية.. فأحد الرفاق من كبار السن والذي يبلغ الخامسة والسبعين من العمر رغم خسارته لبيته وألمه عليه، إلاّ أنّ غصته كانت كبيرة على مكتبته التي احترقت أو حرقت عمداً، ويشاركه ذلك شاعرٌ كان يجمع الكتب مُذ كان طالباً في المرحلة الإعدادية، أمّا إحدى السوريات الصامدات والتي استشهد لها ثلاثة أبناء من أجل الحرية والتغيير،ورغم فجيعتها بهم فقد دعت الله أن تخرج مكتبة أسرتها سالمة حتى ولو تدمر البيت بكامله.. وهذه المواقف تدل على عمق الإرث الفكري والثقافي للشعب السوري..
لا شكّ أنّ ما حدث لم يكن عشوائياً وإنما يهدف إلى حرمان الشعب السوري العظيم من غذائه الروحي والفكري إضافةً إلى غذائه المادي، وإلى محو سورية تاريخاً وحضارةً،وإعادتها إلى العصر الحجري،كما صرح بعض قادة الإمبريالية والصهيونية،تاريخها المقاوم للظلم والقهر والاستغلال،تاريخ الشعب السوري بوحدته ووعيه وموزاييكه وتنوعه الاجتماعي والثقافي كلوحةٍ فسيفسائية تتناغم ألوانها بشكلٍ هارموني إبداعي..ووجودها وحضارتها الممتدة منذ آلاف السنين،حيث فيها أول إنسانٍ استوطن على ظهر البسيطة وأول إنسانٍ زرع..وفيها أول أبجديةٍ ابتكرتها البشرية وأقدم عاصمةٍ ما تزال مأهولة.. لذا لا عجب أن قال أحد علماء الآثار الفرنسيين والذي اكتشف مدينة ماري والتي كانت أورنينا ربّةّ الغناء فيها:
لكل إنسانٍ في هذا العالم وطنان، وطنه الذي نشأ فيه وسورية..
وما يثير الأسى والألم والغضب أنّ بعض ما يحدث هو بيد بعض أبنائها سواء كان جهلاً أو تعمداً وهو ضدّ مصلحة الشعب والوطن ولمصلحة عدوهما سواء كان خارجياً أم داخلياً، لكن ما يُحفز أن هذا الشعب بتاريخه وحضارته قادر على الخروج من الأزمة كما خرج سابقاً، وما يبعث الأمل أنه يملك من القدرات والإمكانات ما يجعله قادراً على مواجهة التحديات وبربرية الرأسمالية وأذنابها من الرجعيين والظلاميين وقوى القمع والفساد وهذا الشعب قادر على صنع التاريخ مجدداً كما صنعه سابقاٍ..
ومن هنا نتوجه إلى كل الثوريين والمتنورين الوطنيين للّقاء والحوار والمصالحة الوطنية،للخروج من الأزمة والمحافظة على ما تبقى من البنى العلمية والثقافية بل وكل البنى التحتية وإعادة بناء ما تخرب ورسم مستقبل وطننا والاحتكام للشعب على أساس التعددية والديمقراطية.