موت.. وسياحة خمس نـجوم!
أحمد قشمة، مواطن كان يعشق الماء لا لكونه إطفائيا فقط، فالماء كانت وسيلته الأساسية لأداء عمله في إطفاء الحرائق، بل أيضاً لأنه كان يقطن في بستانه الصغير الذي لا تتعدى مساحته ثلاثة دونمات، وفيه بيت يتألف من خمس غرف كبيرة مع منتفعاتها وسط بستانه المتموضع على الضفة الشمالية من نهر يزيد في حي ركن الدين/ موقف آدم،
وفيه العديد من الأشجار المثمرة «زيتون- مشمش- جانرك- لوز- جوز- ليمون- نارنج- عنب... وغيرها من الورود والأزهار»، وكان معتادا وبشكل يومي أن ينشد الراحة مداعباً أزهاره وأشجاره المنثورة في حديقته المتواضعة، يداريها، ويرش الماء عليها ويربيها كواحدة من بناته، ويحنو عليها كأنها أمه. ثم ينزوي إلى مقصورة صغيرة على ضفة النهر ليدخن النرجيلة ويناجي مياه النهر وهو يرى فيه الحياة والسعادة والسرور، والسهرة المسائية كانت مقدسة ولو كان الفصل شتاءً، وكانت مقصورته تشكل محطة للاستراحة لأهل حيه وأصدقائه ذاهبين كانوا أم قادمين، آماله كانت تسعد حياته رغم أنه كان فقيراً لا يملك إلا هذا البستان الصغير الذي لو باعه لأصبح غنيا وتخلى عن وظيفته التي لا تدر عليه إلا بالقليل الذي به يرمم عيشه المنكود، ورغم كل ذلك كان هنيئاً وقانعاً بعيشه وبوضعه، في أحد الأيام وبينما كان أحمد يطفئ أحد الحرائق، لم يكن يدري أن المحافظة على وشك أن تشعل حريقا في قلبه لن ينطفئ إلا بانطفاء قلبه المحروق وتوقفه عن الخفقان، فقد حصلت المحافظة على قرار استملاك لبيته وبيوت العديد من جيرانه، ثم هجّر قسرياً إلى منطقة الحسينية بعيداً عن أقربائه وأصدقائه وأبناء حيه، وخصص له منزل صغير في عمارة سيئة التنفيذ، و ليت المنزل الجديد هذا كان بديلا عن أرضه، بل ألزم كما الآخرين بدفع قيمته على (دوز بارة) كما يقول المثل!!.. و ليت أرضه استخدمت من أجل المنفعة العامة كما ينص قرار الاستملاك، بل إنه بعد هدم بيته وبتواطؤ من المحافظة تم بيع الأرض لأحد تجار البناء الذي بنى فيها عمارة من أعلى عمارات ركن الدين وبـ 12 طابقاً ربحت منه المحافظة والتاجر مئات الملايين.
لم يستطع أحمد بعد كل هذا أن يتقبل الأمر، وحاول المستحيل لاستعادة أرضه أو أي جزء منها، ورفع دعوى قضائية ضد المحافظة لكنه خسرها بحجة المنفعة العامة.. أحمد قشمة ينام الآن هانئاً ومنذ أكثر من عشرين عاما في مقبرة النقشبندي ولا يدري أن منزله الأبدي الذي لا تعدو مساحته المترين مهدد بالزوال أيضاً تحت يافطة المنفعة العامة نتيجة ما يسمى بمشروع المتحلق الشمالي الذي سيشق طريقه من مشفى ابن النفيس حتى منطقة خورشيد في المهاجرين، وسيؤدي إلى إخلاء مئات الآلاف من قاطني هذه المنطقة دون مقابل..
أحمد قشمة يتساءل وهو في قبره، كما يتساءل الآلاف من الأحياء ممن يقطنون في هذه المنطقة: كم أحمد قشمة آخر سيسقط محروقاً قلبه ومجلوطاً من أجل المنفعة العامة الفاسدة التي تسعى، وعلى حساب مساكن الفقراء، لأن تبني منشآتها السياحية ذات الخمس نجوم على أنقاضها؟!.