من علمني حرفاً

من علمني حرفاً

مع بداية العام الدراسي 1943 ــ 1944 سجلني أبي، وقد أتممت السادسة من عمري، في مدرسة الرشيد القائمة بين حارة الصالحية وحارة الأكراد على ضفة نهر يزيد في سفح قاسيون بدمشق.

وما فاجأني في المدرسة وجود عدد من التلاميذ الكبار في السن في الصفين الرابع والخامس، «وبشوارب» والسبب في ذلك ما عرفته فيما بعد، وهو تأخر أهلهم في تسجيل ولاداتهم في حينها، وبعد سنوات بادروا إلى تسجيلهم في دائرة النفوس ــ الأحوال المدينة حالياً ــ ما أوجد خللاً وتبايناً بين عمرهم الحقيقي وبين العمر الأصغر الذي سجلوا استناداً إليه. وفي عام 44 ــ 45 استحدثت مدرسة في حارة الصالحية حملت الاسم ذاته «الرشيد» ونقل إليها عدد كبير من التلاميذ وعدد آخر إلى مدرسة الصاحبة مراعاة لقرب وبعد بيوتهم عن المدارس الثلاث، وحملت المدرسة القديمة اسم «الفضيلة» وقد كنت في عداد من انتقلوا إلى مدرسة الصاحبة وهي بناء أثري ضخم يعود إنشاؤه إلى زمن الحكم الأيوبي قبل ثمانمائة عام، وفي زاوية أحد صفوفها قبر خاتون أخت السلطان صلاح الدين الأيوبي.

وباحة المدرسة واسعة بجانبها شجرة تين معمرة، ومازلت أذكر مديرنا الأنيق الأستاذ محي الدين المفتي وهو يقف في وسط الباحة بعد قرع الجرس وحوله المعلمون محمد مزيان ومحمد الدهان وسليم أورفلي ومنير جلول ومحمد سعيد الدغلي ومحمد الخطيب وعبد المجيد قاسو، ونحن نقف في صفوف منتظمة على شكل مربع حولهم، وبعد أداء النشيد الوطني السوري، يخاطبنا المدير قائلاً: يا أبنائي الأعزاء «وليس كما يحصل اليوم ونحن نسمع عبر ميكروفونات المدارس كلاماً من مثل (ولاه أنت وياه وقفوا منيح يا.....)» ولشد ما كان يستحوذ على انتباهنا بوقع كلامه الجميل وهو يوجه إلينا ملاحظاته ونصائحه الأبوية الصادقة، كما أذكر كيف كنا نصيح بفرح غامر حين يقول:

غداً تعطل المدرسة بمناسبة عيد من الأعياد الرسمية، ولعل في ذكر أسماء المعلمين ما يحفز لديكم قراءنا الأعزاء استعادة تذكر معلميكم وزملائكم في الدراسة لتتنسموا بعضاً من أريج ما مضى.

مرددين قول أمير الشعراء أحمد شوقي:

ألا حبذا صحبة المكتب

وأحبب بأيامه أحبب

ومما لا يزال حاضراً في الذاكره وسآتي على ذكره بعض ما يخص معلمنا الأستاذ الرفيق عبد المجيد قاسو، فهو واحد من المعلمين الذين غرسوا في نفوسنا الروح الوطنية وحب بلادنا وشعبنا الغالي، ومن ذلك ما كان بعد نكبة فلسطين وقيام دولة الاحتلال الصهيوني، فقد قامت السفارة الأمريكية بدمشق بالتنسيق مع وزارة المعارف بتوزيع هدايا على تلاميذ المرحلة الابتدائية، وهي عبارة عن علب كرتونية تحتوي كرات أو بالونات أو جوارب أو أقلاماً وأدوات هندسية وغير ذلك. طبعاً ستلقى هذه الهدايا ترحيباً من الأطفال الصغار، ويوم حان دور مدرستنا في «استقبال» موظفي السفارة، خاطبنا معلمنا الأستاذ عبد المجيد موضحاً حقيقة الأمر، فالهدايا هي من أمريكا الاستعمارية التي أقامت مع الغرب وبعض الحكام العرب دولة «إسرائيل» وشردت شعب فلسطين في كل مكان، وبهذه الهدايا تحاول خداعنا والتأثير علينا بإظهار «محبتها لنا»، فصاح عريف الصف وهو أكبرنا سناً قائلاً: لن نأخذ هذه الهدايا! ولاقى قوله تجاوباً من غالبية التلاميذ، وعندما دخل موظفو السفارة قاعة صفنا رفضنا استلام الهدايا، مما اضطر «الزوار» إلى مغادرة الصف مستائين خائبين، وبعد دقائق جاء الآذن «أبو رشيد» ليخبر معلمنا أنه مطلوب إلى الإدارة، وما أن خرج معلمنا حتى بدأ الصياح وعلائم الاستنكار تبدو عل وجوهنا... ثم جاء المدير وسألنا: من «حرضكم» على رفض الهدايا؟ وجاءت إجاباتنا متواترة:

أهلنا هم الذيم طلبوا منا رفض هذه الهدايا المشبوهة من أعدائنا وأدرك المدير الحقيقة التي هو أيضاً مقتنع بها، لكن وظيفته «تتطلب» منه متابعة الأمر. وحين عاد معلمنا تعالت أصواتنا مرحبة ومقدرة مكانة هذا المعلم الوطني المخلص ومتحمسة للوقوف إلى جانبه، وقد تلاقت أصواتنا مع أصوات تلاميذ المدرسة تعبيراً عن فرح الجميع واعتزازهم بعمل مشرف أنجزناه في مدرستنا.