جريمة بحق الوطن!
في عام 2003، كان لي اللقاء الأول مع بلدي الأم سورية، بعد انقطاع دام 17 عاماً، مدفوعاً بالحاجة الملحة لتكوين الكوادر المتخصصة في هذا المجال الحيوي، وحبي الجامح لخدمة وطني (ومهما فعلت فلن أتمكن من أن أرد ولو القليل من أفضال وطني عليّ)، وَطُلبَ مني حينها أن أساعد بوضع منهاج تعليمي وإطلاق درجة ماجستير مشترك فرنسي سوري يسمح بتكوين هذه الكوادر وفق أحدث المناهج وبمساهمة أفضل الخبراء في هذا المجال (أوربيون ومغتربون). كم كان هذا «التحدي» رائعاً، وكانت المعركة الأولى للحصول على الموافقات الرسمية الفرنسية، فسورية ترزح تحت سلاح الحظر التكنولوجي القذر. ولكن خدمة سورية مقدّسة لكل محب لترابها.
دامت هذه المعركة عاماً كاملاً وكللت بالنجاح لأنها قضية حق، كانت الموافقة الوحيدة التي خرجت من مكتب الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، للتبادل العلمي مع سورية (والتي تتجاوز قرارات الحظر). كم كانت صدمتي كبيرة حين عدت وكلي فخر، عدت لأزف خبر «النصر»، وكانت المفاجأة الصاعقة: وجدت نفسي وأنا أخاطب المسؤولين في وزارة التعليم العالي وكأنني «أتسول» موافقتهم وكأنني مندوب تجاري يحاول تسويق منتج صناعي، وضعوا بوجهي كل ما تمكنت عقولهم وخبراتهم من صنعه من الصعوبات والعراقيل، وصلت لدرجة اتهامي الشخصي بأنني أسعى وراء أطماع خاصة، وهذه أبسط الاتهامات.... عدت لبلد الاغتراب والقلب يدمي لما سمعت... أصبت بوعكة صحية كادت تودي بحياتي من شدّة الألم والحزن للحال الذي وصل اليه القائمون على التعليم العالي، لمن بيدهم مسؤولية البناء وإذ بهم اليد التي تهدم، وإذ بهم سادة النفاق حين يتباهون بالتواصل مع الكوادر الاغترابية بينما الحقيقة أنهم أصبحوا خبراء في محاربة كل مغترب قلبه مفعم بالحب الصادق لخدمة الوطن.
ماذا أقول لكل من حاربني في فرنسا ووقف بوجه هذا المشروع الأكاديمي؟ هل أقول لهم الحقيقة في أن القائمين على التعليم العالي في سورية هم ليسوا أهلاً للمسؤولية؟ هل أقول لهم إن من أحارب من أجلهم أطلقوا علي سهام الاتهامات القذرة؟ هل أقول لهم إن من وضعت سمعتي وضمانتي العلمية في فرنسا على الميزان من أجلهم قد غيروا خطابهم من محتاج ولعان إلى جلاد قذر يكيل الاتهامات لكل من يحاول أن يبني؟ لا وألف لا، لن أدع المجال لأحد أن يستغل هذه الفرصة لأنهم حينها سيُكيلون استهزاءهم لكل السوريين وليس فقط لحفنة المسؤولين عن هذه التصرفات. حينها اكتشفت أن هناك الكثير من الشرفاء الذين يعملون بشرف، ولكن بصمت، تفادياً لمافيا الفساد في مجال التعليم العالي ومنهم: ع.أ، و.م، ر.ر ، ن.ع.و، ن.ع (لن أذكر أسماءهم حفاظا عليهم ولأني أعرف أنهم لا يسعون وراء مجدٍ مزيف).. أُحدث هذا الماجستير بعون هؤلاء الشرفاء، ولكن مافيا الفساد استمرت بوضع العراقيل الإدارية، المادية والأخلاقية، والقصة الآتية تلخص الكثير:
قال مسؤول في التعليم العالي لأحد الزملاء (وهو خبير عالمي مشهور جداً): عليك أن تتحمل نصف نفقات الإقامة بشكل شخصي فأنتم تنالون تعويضات كبيرة من فرنسا، فأجابه زميلي: اسمع يا صديقي، حضرنا أول مرة لمحبتنا ولثقتنا بابن بلدكم الذي نحترم علمه وحبه لوطنه الأم، واليوم عشقنا سورية وبتنا نحارب بجانب ابن بلدكم لتقديم يد العون لهذا البلد العظيم. لعلمك نحن لا نحصل لقاء ذلك على أي تعويض مادي، بل ننفق من مالنا الخاص وبصدرٍ رحب لأننا بتنا نشعر وكأننا أبناء هذا البلد، لذلك عيب عليك أن تنظر إلينا بهذا الشكل ياصديقي، ما عساك تقول لو عرفت ما قيل لي وما اتهمت به؟!..
تحيا سورية..