من الذاكرة: دخول الحمّام!!
بداية اسمحوا لنا قُرّاءنا الأعزاء، أن نحيي معاً ذكرى الملحمة الخالدة التي سطرها أبطالنا في ميسلون بقيادة القائد الوطني الشهم الشهيد يوسف العظمة وجنوده البواسل في الرابع والعشرين من تموز عام 1920، وسنذكر كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
سأذكر ما حييت جدار قبر
بظاهر جلق ركب الرمالا
مقيم ما أقامت ميسلون
يذكر مصرع الأسد الشبالا
أقام نهاره يلقي ويلقي
فلما زال قرص الشمس زالا
فكفّن بالصوارم والعوالي
وغيّب حيث صال وحيث جالا
وبعودة إلى موضوعنا اليوم أقول:
حين التحقت بخدمة العلم في صفوف الجيش السوري عام 1957 كنت مثلي مثل الآخرين من شباب الوطن أحس بالفخر والرجولة ونحن نتوجه إلى الخدمة العسكرية.. وكانت خدمتي في سلاح المدرعات ومع بداية الحملة الظالمة المسعورة التي شنت ضد الحزب الشيوعي عام 1959 فتحت السجون والمعتقلات ومراكز المباحث والآمن أبوابها في طول البلاد وعرضها «لاستقبال» أفواج المعتقلين وهم بالآلاف.. ومن أهم هذه السجون وأشهرها سجن المزة العسكري.. الذي جرى دعم حرسه من الشرطة العسكرية بجنود من المدرعات، وكنت ضمن مجموعة «الدعم» التي كلفت بحراسة السجن من الخارج بثلاث عربات مصفحة من السرية المدرعة التي يقوادها الملازم أول عدنان حمدون «شقيق العميد مصطفى حمدون أحد كبار الضباط الذين وضعوا حداً لديكتاتورية أديب الشيشكلي عام 1954» وانتقلت الفئة من موقعها الأصلي إلى محيط السجن بقيادة الملازم المصري أحمد زكي عيسوي الذي ما فتئ ينبهنا بضرورة اليقظة التامة خشية أن يتعرض السجن «لهجوم» خارجي، وبحسب تخيلاته المريضة هو وغيره ممن يقودون تلك الحملة الشرسة الجائرة على الشيوعيين السوريين «فمن المحتمل أن يقوم الشيوعيون بهجوم على السجن!!!».
وتبعاً للمهمات التي أنيطت بنا.. كانت مهمتي رئاسة الحرس مرة كل أربعة أيام، كما كلفت بمرافقة المرضى من جنود الفئة إلى مستوصف السجن لمعالجتهم.. وباستلام الطعام من مطبخ السجن وبتوزيعه على جنودنا فطعامنا من طعام السجناء وكان حينها سيئاً، وكذلك تأمين وقود التدفئة للبراكيات التي ننام فيها من مخصصات السجن، وجراء الاحتكاك اليومي بعناصر الشرطة العسكرية أثناء العمل حدثت بعض الإشكالات والإشكاليات وبخاصة خلال جولات تفقد جاهزية الحراس، مما يحمل البعض على أن «يعلّم» على حرس الآخر.
فتحدث بعض المشادات والمشاجرات.. وكان من الطبيعي أن نبلغ قائد السرية خلال زياراته المتكررة للإطلاع على أوضاعنا، بما حصل ويحصل، فكان يبادر مباشرة إلى حسم الأمور فيستدعي مدير السجن الوكيل أول سليمان ويوجهه لحل هذه الإشكالات، فتوفر الوقود لنا دون تأخير أو تقيد، وبدأ الطعام يتحسن بعد أن اتفق على أن تقدم «عينة» منه قبل التوزيع إلى قائد الفئة فإن استحسنها جرى توزيعها وإلا فإنها تعاد لاستدراك «نواقصها» وكان ذلك في المحصلة لمصلحة جنودنا وفي الوقت ذاته لمصلحة المساجين.. وقد واجهني إشكال وأنا أرافق المرضى إلى داخل السجن حيث طلب مني حرس الداخل أن أترك مسدسي الحربي لديهم لحين خروجي من داخل السجن فرفضت الامتثال لهذا الطلب... وأبلغت قائد السرية في اليوم ذاته عندما زارنا فاستدعى مدير السجن وأبلغه أمامي ببطلان هذا التصرف، موضحاً له أنني من حرس السجن ولا يجوز بحال من الأحوال أن أتخلى عن مسدسي الحربي مادمت في عداد الحرس داخل وخارج السجن، كان لهذا الموقف الحاسم «وقعه» وأثره على المدير!!... وفيما بعد شاء «الحظ» ــ كما قالت كوكب الشرق أم كلثوم ــ أن أكون ضمن عدد من العسكريين الذين طالتهم حملة اعتقالات جديدة، فانتقلت من خارج السجن إلى داخله.. من حارس إلى سجين.. وبذلك «سنحت» لمدير السجن وزبانيته الفرصة «لتأديبي».
ومن أعجب العجب ما سمعته منهم أن الحزب الشيوعي هو الذي أرسلني لأتعرف على ما يجري خارج وداخل السجن، وكان جوابي وردي القاطع أن هذا الإدعاء باطل فأنا لم آت بناء على طلب مني، وإنما أتيت مع القطعة التي انتقلت بمجموعها إلى حراسة السجن. «ولكن لا أحد يستوعب، وعنزة وإن طارت!!!».
وللحديث عن السجن والسجناء بقية... بل بقايا وهي على «الطريق» تباعاً..