من الذاكرة : أشهى من النبع الزلال

من الذاكرة : أشهى من النبع الزلال

أيام قليلة وتهل ذكرى عيد أعيادنا الوطنية, جلاء المحتلين الفرنسيين عن أرض سورية البطلة في السابع عشر من شهر نيسان 1946

وتعود بي الذاكرة اليوم إلى باكورة سماعي بالجلاء عشية الاحتفال بذكراه الأولى, حين كان الناس كباراً وصغاراً يجهزون أنفسهم لحضور العرض العسكري الأول, وأذكر كيف نزلت في الصباح الباكر, وأنا في العاشرة من عمري بصحبة والدي وأعمامي وبعض الجيران سيراً على الأقدام من حارتنا على سفح قاسيون إلى نزلة «الجبخانه» قرب «قصر الضيافة» حالياً, لنقف في أول مكان يتاح لنا فيه الوقوف, لنطل على شارع بيروت, فالأمكنة مكتظة بالناس, حتى الأشجار لم يبقَ فيها متسع لمتسلق! ثم بدأ العرض, وهدرت الدبابات والمصفحات وقاطرات المدافع في تشكيلات رائعة, ومن المناظر التي رسخت في خيالي منظر «الهجانة» بملابسهم الزاهية وهم يمتطون الجمال.
وتمضي السنون ويحل عام 1956 فأحضر احتفالاً أقامه حزبنا الشيوعي السوري «الحزب الذي كان بمجمل نضاله مع جميع الوطنيين في صفوف الثوار الذين صنعوا بالعرق والدم ملحمة الجلاء, ولهذا أطلقت عليه الجماهير بحق اسم حزب الجلاء»، وأشارك فيه بأول قصيدة لي «موزونة» مطلعها:
ترى أي الهوى أبغي
ولي في الحب أطواري

ويأتي عام 1996 ليحتفل شعبنا بالذكرى الخمسين للجلاء, ويقيم حزبنا احتفالاً بصالة المركز الثقافي بمدينة دير الزور, وأشارك فيه بقصيدة بدايتها الأبيات التالية:
«نفحة من زهرك الفواح يا نيسانُ
رفت في الحنايا.. في الفؤادِ
كوثراً أشهى من النبع الزلالِ
فرحةً بالعيد هوت صبو صدري وخيالي
لوحتْ بالشالِ تغري حامل الراياتِ.. أقْبِلْ
وأعلن الأدواح تبقى وارفات نادياتِ».

وبعد انتهاء الاحتفال غادرت الوفود المشاركة مدينة دير الزور عائدة إلى محافظاتها, وقد تعرض وفد رفاقنا من الجزيرة لحادث سيرٍ فاجع وأستشهد أربعة منهم هم: «الرفاق محمود داود وسليمان شيخ نور ومحمد إبراهيم وعبد الحميد زبير برو», لينضموا إلى مواكب شهداء الجلاء.
غني عن البيان أن آباءنا كثيراً ما حدثونا عن الثورات السورية ضد المستعمرين, وعن الأبطال أمثال يوسف العظمة وسلطان الأطرش وصالح العلي وابراهيم هنانو ومحمد الأشمر وحسن الخراط و..., ومما سمعته من أبي إضافة لما ذكر.. أبو عمر ديبو بطل معركة حرستا وأحمد بارافي بطل معركة قطنا, كما سمعت منه أحاديث عن السياسيين الأحرار الذين ناضلوا من أجل استقلال الوطن, كالوطني فارس الخوري وبخاصة قصته حين جلس على كرسي مندوب فرنسا في مجلس الأمن خلال بحث قضية تحرير سورية, فلما احتج المندوب الفرنسي أجابه:
«أنت لم تتحمل جلوسي على كرسيِك لدقائق معدودات, فكيف تريد أن يتحمل شعبنا احتلالكم العسكري البغيض لبلادنا خمساً وعشرين سنة.. هيّا ارحلوا عن أرضنا».