لا يموت حق : تنازع البينات في إساءة الأمانة
اتجه العمل في المحاكم الجزائية، وكاد يستقر الاجتهاد القضائي على عدم السماح للمدعى عليه بجرم إساءة الأمانة المنصوص عنه بالمادة 657 عقوبات بإثبات ما يخالف سند الأمانة إلا ببينة خطية مماثلة والالتفات عما سواها من البينات المقررة في القانون
فلماذا لا يجوز للمدعى عليه بهذا الجرم وهو جرم شائن أن يتقي الدعوى بما أتاح له القانون من بينات؟؟
بدايةً لا بد من الإشارة إلى أن قانون أصول المحاكمات الصادر بالمرسوم التشريعي 84 لعام 1953 ألغى قانون الإجراءات الذي كان معمولاً به قبله والذي كان يجيز حبس المدين لإكراهه على قضاء الدين.
ففي الدعوى الجزائية نصت المادة 175 أصول جزائية على مايلي:
1- تقام البينة في الجنايات والجنح والمخالفات بجميع طرق الإثبات ويحكم القاضي حسب قناعته الشخصية.
2-إذا نص القانون على طريقة معينة للإثبات وجب التقيد بهذه الطريقة .
كما نصت المادة 177: إذا كان وجود الجريمة مرتبطاً بوجود حق شخصي وجب على القاضي إتباع قواعد الإثبات الخاصة به.
فعلى هاتين المادتين تتأسس حرية القاضي الجزائي في تكوين قناعته فيأخذ من البينات ما يشاء ويترك ما يشاء.
غير أنه يستثنى من ذلك إذا نص القانون على طريقة معينة للإثبات في حال كان وجود الجريمة مرتبطاً بحق شخصي فلا بد إذاً من اتباع قواعد الإثبات الخاصة بهذا الحق الشخصي الذي هو أساس تحريك الدعوى العامة.فما هي قواعد الإثبات الخاصة به؟
الجواب يتمثل في أن قواعد الإثبات هذه إنما هي ما نص عليه قانون البينات الذي مكًن المدعى عليه وأجاز له أن يثبت الوفاء وأن يبين منشأ الالتزام بما يتوفر لديه من بينات مشروعة ليدفع عن نفسه جرم لا وجود له في الواقع . وليس ذلك في الحقيقة إلا تطبيقاً لنص المادة 177 أصول جزائية وأما منع المدعى عليه من هذا الحق فيعد خروجاً على النص خاصة إذا كانت صورية عقود الأمانة في هذا السياق محققة ومكشوفة وليست مثار جدل!! وإلا فهل ضاقت بالناس السبل حتى يجدوا طريقة لحفظ نقودهم إلا أن يستأمن بعضهم بعضاً عليها؟!
طالما كان الأمر كذلك وبهذه الدرجة من الوضوح فلماذا درج الناس على توثيق حقوقهم وديونهم بعقود أمانة؟
الحقيقة أن المشرع لما ألغى النص الذي يجيز الحبس في الدين ،عندها فقد الدائن مؤيداً جزائياً فاعلاً وسريعاً للحصول على حقه ولما لم يجد ضمانة قانونية لحقِّه في القضاء المدني تكون بديلاً مماثلاً في السرعة ، اتخذ من عقد الأمانة وسيلة للدخول إلى حرم القضاء الجزائي بوجه مزيف خلافاً لإرادة المشرع تمثلت بتلفيق النصوص المتعلقة بقواعد الإثبات و البينات بما يخدم في هذا الاتجاه وتكوينها تكويناً آخر على غير هيئتها التي ولدت عليها لتؤدي دور النص الملغى سنة 1953!!
والملاحظ أن رجال القانون من قضاة ومحامين استشعروا ضرورة حماية الدائن من تعسف المدين المماطل ولاسيما إن كان موسراً ظاهر اليسار حتى كأنهم أجمعوا على ضرورة طلب حبسه لإكراهه على قضاء الدين.
ولكن مثل هذا الشعور وحده لا يصلح أساساً يمكن الاعتماد عليه كسبب موجب للعودة إلى ما كان عليه العمل من قبل لأنه وبكل بساطة (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني).
ومع عدم وجود النص الذي يجيز حبس المدين لإكراهه على أداء الالتزام الناشئ عن علاقات تجارية وديون عادية، يظل البحث عن سبب الالتزام الحقيقي قائماً ومتاحاً للمدعى عليه بالبينة القانونية الملائمة.
أخيراً
قد يقول قائل: هذا الرأي يؤدي إلى ضياع الحقوق لأننا في وقت فسدت فيه الذمم وشاعت المماطلة.
والجواب برأيي أنه ينبغي على رجل القانون أن يَرْفع بوعي الناس إلى مستوى الفقه الصحيح للقانون لا أن يروض القانون، ويهبط به ليناسب الأخطاء الشائعة وإن كان هناك من ضرورة استشعرها رجال القانون للعودة إلى العمل بما كان عليه الحال من قبل مما يسمى ( حبس المدين) فلماذا لا يتصدى المشرع لتعديل القانون على النحو الذي يتماشى مع هذه الضرورة الملحة بدلاً من سوق النصوص جبراً إلى غاية بعيدة عما تحتمله من معنى؟!.
• مجلة المحامون لعام 2011 العددان 7و8