فساد دوريات التموين والتغاضي عن المخالفات الكبرى
تبين على أرض الواقع من خلال انعكاس السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة، وسحب الدولة لدورها الرعائي، أن مفهوم تحرير الأسعار في الأسواق المحلية، ودَور الرقابة التموينية الجديد المحدود الفعالية الذي ظهر في ظل التوجه الحكومي نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، يعني ببساطة إتاحة كامل الحرية للتاجر في التسعير، بما يتناسب مع نوعية المنتَج المتنافَس عليه، رغم أن الجهات الرقابية والتفتيشية التموينية تدّعي دائماً أنه يهمها بالدرجة الأولى بطاقة تعريف صحيحة ومقرونة بكل سلعة، استناداً إلى الفاتورة التي يجب أن يحصل عليها بائع المفرق من تاجر الجملة، ويضيف عليها هامش الربح القانوني، ووضع سعر مبيع معلَن وبخط واضح وبمكان بارز.
من هنا فإن هيئات الرقابة التموينية، وبالتالي مديريات التموين والتجارة الداخلية التابعة لوزارة الاقتصاد، لم تعد تتدخل بارتفاع الأسعار أو انخفاضها بشكل مباشر، بل يتحكم بذلك تجار الجملة الذين يحددون سعر الفاتورة، ويُترَك القرار للمستهلك في تقييم جميع السلع، وإقرار هل هذه السلعة تناسب هذا السعر أو لا؟!، وبالتالي هو الذي يجب أن يقرر اختيار هذه السلعة أو رفضها لعدم عدالة سعرها، دون تدخل من الدولة سلباً أم إيجاباً، هذا هو برنامج الهيئات التموينية في التعامل مع السوق الداخلية، ولكنها تركت هامشاً صغيراً لتوهم المواطن أنها ستقوم بحمايته إذا دعت الحاجة إلى ذلك، إذا اتصل بأحد أرقام التموين للشكوى على سعر مرتفع لمادة ما.. ولكن، هل كل مواطن يعرف ما هو السعر العادل لهذه المادة أو تلك أو لجميع السلع الاستهلاكية؟! وإذا رأى المواطن أن السعر مرتفع فهل كل مواطن سيطلب من البائع أن يظهر له الفاتورة وسعر الجملة من عند تاجر الجملة؟!
فعل هذه النظريات في السوق
بناء على هذه السياسة التحريرية للأسعار والسوق بشكل عام، هبت أسعار المواد الاستهلاكية والتموينية بلا حسيب ولا رقيب، تحت علم وأبصار دوريات التموين في جميع المحافظات السورية، هذه الدوريات التي اتخذت موقفاً محايداً مما يجري في السوق، ولكنك إذا استنجدت بها لضبط سعر مادة تتوقع أنها غالية عند أحد بائعي المفرَّق، فإن هذه الدوريات يمكن شراؤها بـ500 ل.س أو علبة تبغ أجنبي ماركة (مارلبورو) حصراً لكل عنصر من عناصر الدورية، وبذلك يتم تجاهل الشكوى والتغاضي عن المخالفة، ليعود البائع ويقتص من المستهلكين لاستعادة المبلغ الذي دفعه رشوة للدورية، وبأضعاف مضاعفة.
وبسبب هذا الانفلات الذي سمته الحكومة تحرير الأسعار تواجه الأسواق السورية العديد من عمليات الغش والتحكم والاحتكار، وخاصة بالنسبة للأسعار ونوعية المواد المعروضة بالسوق، وغيرها من التلاعبات التي تضر بصحة المواطن، وفي الظاهر فقط، فإن مديريات التموين تحاول معالجة هذه المخالفات في ظل وجود الفساد عند بعض الموظفين الذين يتساهلون مع المخالفين، فدوريات التموين التي مهمتها تلبية شكاوى المواطنين حول ارتفاع سعر مادة ما أو الشك حول نوعيتها وصلاحيتها، هذه الدوريات موجودة شكلاً فقط ولكنها لا تقوم بدورها على أكمل وجه لردع ضعاف النفوس من التلاعب بالأسعار ونوعية المنتَج. ولا يخفى على أحد الفساد المنتشر من ناحية المحسوبيات واستغلال صفتهم ووظيفتهم لتحقيق مكاسب شخصية جراء التغاضي عن المخالفات، وهذا يضر جداً بمصلحة المواطن. ناهيك عن أن هذه الدوريات مهمتها تنحصر عند بائعي المفرَّق فقط، بينما يجب ضبط الأسعار من بداية عملية تسويق المادة، هناك في سوق الهال وعند تجار الجملة، الذين لا يستطيع أحد ضبطهم أو تحديد السعر الذي يجب ألا تتجاوزه السلعة، فهم وحدهم المتحكمون الذين يبدؤون بوضع السعر حسب ما يرضي جشعهم وطمعهم واحتكارهم واستغلالهم.
شهادات حية
لدراسة هذه الظاهرة وانعكاساتها على واقع الأسواق في سورية، دمشق نموذجاً، كان لـ«قاسيون» بعض اللقاءات مع مستهلكين وبائعي مفرق، والذين أدلوا لنا بالتصريحات التالية:
ـ المواطن إسماعيل غ. قال: «نظراً لانعدام الثقة في تلبية مطلبه واستجابةِ ندائه، لم تنتشر عند المستهلك السوري ثقافة التبليغ المباشر عن أية مخالفة يلحظها، وأيضاً بسبب استمرار بعض التجار وأصحاب المعامل، بحكم العادة التي أصبحت عرفاً سارياً في هذه الأوساط، بتقديم الرشوة لدوريات الرقابة التموينية بشكل يشجع ضعاف النفوس منهم على التمادي في ارتكاب الأخطاء، بغض النظر عن نتائجها وأخطارها، لتبقى هذه الظاهرة في النهاية دون حل. وتشارك في تفاقم هذه الظاهرة وعدم حلها مديريات التموين، حيث تعلن أحياناً ضمن الشريط الإخباري في التلفزيون أنها ستستجيب لشكاوى المواطنين منعاً للاستغلال والاحتكار من بعض ضعاف النفوس من التجار وتلاعبهم بالأسعار، ترجو وزارة الاقتصاد والتجارة الداخلية بأن يتم الإبلاغ عن أية مخالفة بالاتصال بالأرقام /119/ و/120/ ولكنك عند الاتصال تجد أن الرقم الأول معطل والثاني غير مخصص، وبذلك يقطع المواطن الأمل من الشكوى، ويتابع التاجر في غيه وتجاوزاته.
ـ بائع المفرق أبو كمال قال: «أتمنى لو كانت الحكومة قادرة على ردع الفاسدين الكبار ولا تقتصر على الفاسدين الصغار، فقط الحكومة تسترجل على بائعي المفرق، وقد يكون سعر مادة ما مرتفعاً فعلاً، وأحياناً يقوم المواطنون بالشكوى، وأحياناً تأتي الدورية دون شكوى، ولكن أكبر دورية يمكن شراؤها بـ500 ل.س، وستبقى اللعبة بين المستهلك وبائع المفرق ودوريات التموين مثل لعبة القط والفأر، والذي يتشاطر أكثر يستطيع شراء الدورية بأقل ما يمكن، موظفنا فاسد وتاجرنا فاسد، والرقابة تحتاج إلى رقابة، وقد علّمونا لعبة الفساد أيضاً، لأن تاجر الجملة لا يعطينا فاتورة بالأسعار المرتفعة، فنضطر أن نبيع بسعر مرتفع، وإذا حضرت الدورية سنضطر لشراء تغاضيها، وهكذا فإن المستهلك هو الخسران الوحيد».
ـ بائع المفرق عساف ع. قال: «ضبط السوق والأسعار لا يلزمه كل هذا التخبط، وهو أمر بسيط لو أرادت الحكومة ذلك، والدور الأساسي ليس لدوريات التموين بل لضبط الأسعار وتنظيم الفاتورة العادلة في سوق الهال، ولكن الحكومة هم التجار أنفسهم الذين يقررون غلاء الأسعار وبقاءها دون فاتورة، وليس من مصلحتهم تحديد الأسعار وضبطها في سوق الهال، وكبار التجار والمحتكرين الذين يتلاعبون بالأسعار إما أعضاء في مجلس الشعب أو أصدقاء لأعضاء في الحكومة أو مسؤولين كبار أو شركاء لهم، فإذا كانت وزيرة الاقتصاد قد حددت سعر كيلوغرام السكر بالجملة /41.5/ ل.س وبالمفرق /45/ ل.س، ومع ذلك يباع الكيس في سوق الهال بـ2350 ل.س أي الكيلوغرام بـ47 ل.س ليباع بالمفرق بـ55 ل.س، وأحياناً وصل إلى أكثر من 60 ل.س، فلماذا لا تضبط سعر الجملة في سوق الهال حسب القرار وبفاتورة نظامية؟! كفانا قرارات لا تُنفَّذ ومجرد حبر على ورق!!»
تصريحات حكومية خجولة
دون قرارات رادعة
في كثير من التصريحات أكدت وزيرة الاقتصاد أن الوزارة تقوم بدورها من أجل تخفيف الأعباء عن المواطنين ووصول السلع الأساسية لهم بأسعار أقل من خلال تخفيف الرسوم الجمركية ورسم الإنفاق الاستهلاكي. وحسب موقع (سيريانديز) الالكتروني فقد لفتت إلى أنها (اتفقت) مع التجار أثناء اجتماعها مع غرف التجارة على أن يقوم التجار بتخفيضات من جانبهم بحيث يخففوا أرباحهم (خدمة) للمواطن، وبحيث تكون التخفيضات التي قامت بها الدولة لها انعكاس في السوق من التجار، وحصلت على (وعد أكيد) منهم بهذا الصدد.
وفي تصريح آخر أكدت وزيرة الاقتصاد أن موضوع رفع أسعار السكر من بعض التجار المتلاعبين بقوت الناس لن يمر دون اتخاذ إجراءات ستنعكس على السوق مباشرة، وقالت إن الإجراءات ستُتخَذ (بتكاتف الجهود وبموقف جماعي وطني) بوجه أية عملية احتكار، لأنه لا مبرر ولا سبب لرفع أسعار السكر من قبل التجار. وقالت إن من أوقف تزويد المحال بالسكر من أجل رفع الأسعار هم متلاعبون بقوت الناس، وأضافت أنه بالنسبة لتسعيرة السكر فقد تم حساب تكاليف الاستيراد على المستوردين وإعطاءهم هامشاً إضافياً قدره 5%، ومن هنا فقد تم وضع تسعيرة محددة للسكر وهي 41.5 ل.س لكيلوغرام السكر بالجملة و45 ليرة سورية للكيلوغرام بالمفرق.
أين دور جمعية حماية المستهلك؟
جمعية حماية المستهلك في دمشق تأسست عام 2001 بهدف حماية مصالح المستهلك في جميع المجالات التي تشكل خطراً على سلامته وصحته، وإرشاده وتوعيته بحقوقه ومسؤولياته، والإسهام في الدفاع عن حقوقه، ومساعدته في الحصول على تعويض مجزٍ عن أية خسائر مادية أو صحية تنجم عن استهلاكه لسلعه ما، أو حصوله على خدمة غير مناسبة.
وتم التأكيد أكثر من مرة أن دور هذه الجمعية يتجاوز ذلك للوصول إلى تمثيل المستهلك وحمايته، وليس مجرد الإسهام في الدفاع عنه، ومع ذلك فإن دور هذه الجمعية لا يزال ضعيفاً وغير ملموس لأنها تابعة ومرتبطة بشكل كامل بوزارة التموين وهذا من شأنه أن يقيدها، بل ويهمشها، ولا يترك لها المجال لتقوم بالإشراف على الأسعار والتسعير وضبطها بشكل دقيق وصريح، وهي غير قادرة على حماية المواطن وتلبية متطلباته وحاجياته وغير فعالة. ففي كثير من الدول توجد لجان لحماية المستهلك وتتمتع بصلاحيات واسعة لقيامها بمهمتها الموجودة من أجلها، وهي حماية المستهلك وعدم السماح بوجود تدليس أو غش أو تلاعب بأسعار المنتجات الاستهلاكية في الأسواق، وهذا ما لا تقوم به جمعية حماية المستهلك في سورية، ولا حتى وزارة الاقتصاد، الأمر الذي سمح بتشجيع بعض أصحاب المنشآت التجارية والصناعية بزيادة تلاعبهم وعدم ردعهم فيما يتعلق باستغلالهم للمواطنين، وخاصة في المواسم والأزمات المتلاحقة، وقد استغل بعض موظفي أجهزة الرقابة في وزارة الاقتصاد هذه الأزمات وجعلوا من وظائفهم وسيلة لمكاسب غير مشروعة، نتيجة تغاضيهم عن الكثير من المخالفات المرتكبة في احتكار السلع وارتفاع أسعارها بشكل جشع وغير مبرر.
أين يكمن الحل؟
لا يتوقف مفهوم الاستهلاك على الشراء التقليدي من السوق المحلية، بل يشمل كل الخدمات والسلع التي يحتاجها المواطن ويتعامل معها، وبالتالي فإن حقوق المستهلك مسألة في غاية الأهمية، ولكنها معقَّدة بالنسبة لاقتصادنا الذي لا يملك أدوات حمايتها، وهي تشكل اختباراً حقيقياً للحكومة في كيفية صياغة برامج تسعير تناسب القدرة الشرائية للمواطنين، وحماية هذه الأسعار من التلاعب والاحتكار. فهل الحكومة تدرس أوضاع المواطنين السوريين على كامل مساحة سورية بكل جدية؟! وإلا فأي فساد تحارب؟ وأية قرارات تأخذها دون تنفيذ؟ أليست دوريات التموين والتفتيش الفاسدة هي أحد أسباب هذا الوضع المتردي الذي أصاب الأسواق السورية؟ فدوريات التفتيش اعتادت أخذ عمولة لقاء السكوت عن المخالفات المرتكبة لدى الباعة، لأنهم يشعرون في قرارة أنفسهم أن باعة المفرق ليسوا هم الذين يرفعون الأسعار، بل إنهم يبيعون بسعر مرتفع بناء على الأسعار العالية التي يحددها لهم تجار سوق الهال، الذين يمتنعون عن تقديم فاتورة نظامية بالسعر الذي يبيعون به السلع، ولا أحد يضبطهم أو يحاسبهم على ذلك.
تساؤلات مشروعة
• وزارة الاقتصاد هي المسؤول الأول والأخير والمباشر عن لقمة عيش المواطنين وتأمين حاجاتهم والمواد الاستهلاكية والتموينية، فلماذا تتخلى عن هذا الواجب وتسلمه لحفنة من التجار، الذين طالما اتسمت ممارساتهم بالطمع والجشع والاحتكار والاستغلال؟!
• لماذا لا تقوم الوزارة كهيئة حكومية باستيراد ما ينقصنا من مواد تموينية واستهلاكية؟ فبذلك نحقق أمرين على غاية من الأهمية: الأول أن المواد ستتوفر في السوق عن طريق المؤسسات ونوافذ البيع وحتى المحال الخاصة، تحت إشراف جهة رسمية حكومية وليس عن طريق التجار المستغلين المحتكرين، والأمر الثاني الذي سيتحقق أن هوامش الربح الكبيرة ستعود لخزينة الدولة، وهذا دعم كبير للاقتصاد الوطني، وليس لجيوب المحتكرين.
• وحتى إذا سمحنا للتجار بالاستيراد وتزويد السوق بما تتطلبه من مواد استهلاكية، فلماذا لا توضع قرارات صارمة وضوابط سعرية جادة يجب عليهم الالتزام بها، وإلا فسوف يتم سحب ترخيص الاستيراد منهم؟!
• لماذا نتوسَّلهم ونأخذ منهم الوعود بتخفيض الأسعار خدمة للمواطن؟ المواطن لا يريد خدمة من التاجر، فالدولة هي المسؤولة عن رعاية أبنائها!
• ثم لماذا لا تُلغى نهائياً رسوم الإنفاق الاستهلاكي؟ ومن الذي اخترع هذا الرسم؟! وما معناه؟! هل من العدل أن يدفع المواطن ضريبة على الأكل والشرب وحاجياته الأساسية زيادةً على سعرها الذي يتضمن أساساً هوامش الربح الكبيرة؟! وهل هو دعوة مبطنة للمواطن للامتناع عن الأكل والشرب والاستمتاع بخيرات وطنه إلا بعد أن يدفع ضريبة لا معنى لها ولا قانونية ولا شرعية؟!