لمصلحة من استمرار مشكلة الإحصاء الاستثنائي؟
في مطلع الستينيات، وتلبية لدسائس عرقية عنصرية متعصبة، واستجابة لغايات طبقية مغرضة، قامت سلطات حكم الانفصال آنذاك بإجراء عمليات الإحصاء لسكان الجزيرة لمعرفة من هو المواطن ومن المتسلل عبر الحدود التركية إلى الأراضي السورية، بغية تنقية سجلات الأحوال المدنية الحالية – المقصود سجلات 1962 وما قبل- من جميع الأشخاص غير السوريين الدخلاء، حسب ما نصت عليه الأسباب الموجبة لمرسوم الإحصاء التشريعي رقم 39 تاريخ 23862.
وفعلاً، انتشرت لجان الإحصاء في كل أنحاء المحافظة وأرجائها تعد وتحصي، وسجلت كل من عثرت عليه في أراضي المحافظة. وبعدها تم جمع كافة الجداول الإحصائية لدى لجنة خاصة من عناصر عديدة، وابتدأ السلخ!!. وكانت الحصيلة أن قام آلاف المواطنين واستيقظوا ووجدوا أنفسهم محرومين من الجنسية، أو حسب المصطلح الدارج «أجانب محليين»، وهؤلاء الآلاف تناسلوا وتكاثروا، ومن المفارقات أن عدداً كبيرا منهم أدى خدمة العلم..
وهكذا فثمة العديد من العائلات تقسمت إلى فئتين: الفئة الأولى تتمتع بالجنسية لاستمرارها في حيازتها، والفئة الثانية باتت أجنبية محلية عديمة الجنسية لعدم ورود أسمائها في سجلات الإحصاء، وفيما بعد استعاد البعض الجنسية بالعودة إلى سجلات الضريبة على الرؤوس المفروضة على السوريين إبان الاحتلال العثماني، ولكن بعد حين من الزمن أقفلت السجلات، فسدّت طريق العودة إلى الجنسية السورية أمام الآخرين، وانقسم المجتمع في المحافظة على صعيد الجنسية إلى ثلاث فئات:
المواطنون السوريون الذين ظلوا متمتعين بالجنسية.
المواطنون السوريون «سابقاً»، الذين نزعت عنهم الجنسية السورية لعدم ورود أسمائهم في جداول إحصاء عام 62 ولهم قيود في سجلات الأحوال المدنية في المحافظة السابقة للإحصاء المذكور.
المكتومون، ووضعهم هو أصعب الحالات الثلاث، إذ لم ترد أسماؤهم لا في عداد المواطنين ولا في عداد «الأجانب».
ومنذ ذلك الحين، كتب الكثير عن المشكلة، وطرحت القضية على مختلف المستويات وجميع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وأطلقت الوعود مراراً لحل المشكلة، ولكن على أرض الواقع لم يتغيّر شيء، حيث تتفاقم معاناة ضحاياها يوماً بعد يوم في مجالات العمل والزواج والتملك والسفر ومختلف مناحي الحياة.
والسؤال هو: ما سرّ استمرار قرار لمدة 48 عاماً بعد تعاقب أنظمة وسياسات مختلفة؟؟ لماذا يتحمل جهاز الدولة الحالي وزر سياسات أقرت في مرحلة يصفها الجميع بحكم الانفصال الرجعي؟ وما هي الجهة التي تقف عائقاً أمام حل المشكلة؟ ومن أين تستمد قوتها؟ هذه الأسئلة، وأسئلة أخرى من المنطقي طرحها ونحن في مناسبة مرور ما يقارب نصف قرن على الحدث – المأساة؟! خصوصاً بعد حصول إجماع وطني على ضرورة حل المشكلة، لاسيما بعد أن أقر المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي بحل المشكلة، وبعد أن أكد السيد رئيس الجمهورية على ذلك أيضاً؟
- إن المستفيد الوحيد من استمرار المشكلة هي تلك القوى التي تراهن على الاحتقانات المزمنة في تفجير البنى المجتمعية، الأمر الذي لا يريده الوطنيون المخلصون، ولما كانت تلك القوى في ظروف اليوم أقرب إلينا من قرب الرمش إلى العين، ولما كانت سورية مستهدفة بحكم موقعها وموقفها من الصراع الدائر في المنطقة، فإن استمرار المشكلة بما راكمته على مدى عشرات السنين وما تمخض عنها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ونفسياً يجعلها بمثابة صاعق تفجير بغضّ النظر عن الرغبات، فالقانون الموضوعي يفعل فعله هنا، والذاكرة القريبة تختزن أحداثاً مؤلمة في هذا السياق، وعلى الجميع أن يدرك أن الشعور بالغربة في الوطن، والإحساس المزمن بالظلم يقود إلى ردود أفعال شئنا أم أبينا، وربما يؤدي إلى نتائج سلبية وخصوصاً في ظل تراجع دور القوى السياسية الوطنية الفاعلة، وهذا ما يمكن أن تستفيد منه كل القوى المعادية لمصالح البلاد والعباد التي تبحث عن المزيد من الثغرات واستغلالها لتنفيذ مشاريعها الهدامة.
- يحلو للبعض أن يقزّم الموضوع، ويصور المشكلة على أنها تخص المواطنين الأكراد فقط، ويبني على أساس ذلك موقفاً سلبياً من حلّ المشكلة، ويسوّق القضية للرأي العام الوطني والجهات الرسمية على أنها من متطلبات المصلحة القومية، ويطلق هذا البعض في هذا السياق مزاودات «قومجية» لا علاقة حقيقية لها بالمصلحة القومية والوطنية، بل على العكس تماماً، تخلق المزيد من الحساسيّات، وتفتعل مشاكل لايوجد مبرر موضوعي لها على أرض الواقع، فحركة التحرر العربية بمحتواها الديمقراطي التحرري بريئة من هذه المواقف.
والسؤال ثانية هو: هل يقوم هذا البعض بذلك من حيث يدري أو لا يدري لتقديم المبرر لبعض القوى الكردية لإخراج القضية عن سياقها الحقيقي، أي السياق الوطني الديمقراطي، أيضاً من حيث تدري أو لاتدري؟
إذا كان المشروع برمته نتاج تقاطع مصالح كبار الملاكين مع العقلية الشوفينية في جهاز الدولة آنذاك، وإذا كان الضحية الأساسية هم المواطنين الأكراد، فإن القضية أصبحت ذات بعد وطني بفعل تراكمها التاريخي ونتائجها وتطورات الوضع السياسي العام، ومن الممكن أن تؤثر سلباً على ترابط النسيج الوطني، فالنزعة الانعزالية، هي المعادل الموضوعي للتمييز، شئنا أم أبينا، وإذا كان الأمر كذلك فلمصلحة من إبقاء مشكلة ذات شكل قومي في ظل استهداف الشعوب والبلدان وافتعال الصراعات البينية من جانب أصحاب مشروع الفوضى الخلاقة؟ ولمصلحة من إخراج هذه الكتلة البشرية الكبيرة من دائرة العمل والإنتاج وإبعادهم عن خدمة العلم، وفرض قائمة ممنوعات عليهم على خلفية حرمانهم من الجنسية؟؟؟
نعم إن الوطن هو الخاسر الأكبر من كل ذلك!
ومن هنا فإن القوى الوطنية في البلاد مدعوة إلى التعاطي مع المسألة على أنها مشكلة تخص جميع السوريين، وأن حلها يصب في مصلحة الشعب السوري كله، وعموم التطور اللاحق للبلاد، ويكمن الحل في إعادة الجنسية لكل من حرم منها ظلماً.
مكتب قاسيون – محافظة الحسكة
*المقدمة المقال مأخوذة من بحث المحامي ممتاز الحسن – دراسات اشتراكية 1988