من الذاكرة: «بكتب اسمك يا بلادي»
قيض لي أن أمارس مهنة التعليم والتدريس لمدة قاربت خمسة عقود، تنقلت خلالها من أقصى جنوب البلاد من مسعدة مجدل شمس بالقنيطرة حين كانت تابعة لتربية دمشق، إلى عفرين بجبل الأكراد، إلى جرابلس على الحدود التركية إلى دير الزور وملتقى الفرات بالخابور، إلى المناطق الداخلية،
ليستقر بي المقام في مدينتي دمشق لأدرس في ثانوياتها للذكور وللإناث، ومن خلال هذه المرحلة وما قبلها وما تلا مرحلة التدريس، أصبح لدي كم وافر من المعلومات والأخبار والمذكرات المكتوبة ومن المخزون في الذاكرة التي مازالت تتباهى بما تحمله، ولاسيما أن هذا الكم ما كان ليرتقي إلى مستوى التأريخ لولا كونه غيضاً من فيض تاريخ حزبنا المجيد منذ أكثر من أربعة وثمانين عاماً حافلة بالنجاحات والإخفاقات، بالصعود والهبوط، لكنها تبقى صورة صادقة للذين صنعوا بجهدهم وبعرقهم وبتضحياتهم مكانة وسمعة حزب الشيوعيين السوريين الذي كان ملء السمع والبصر أعوام كان بين الجماهير وفي طليعتها حاملاً أهدافها أهداف الشعب والوطن في حقها المشروع لتحقيق الشعار الماثل حتى اليوم «وطن حر وشعب سعيد».
ومن ذلك التراث الحزبي الغني أستعيد فصولاً عشت وقائعها، وهي أولاً وأخيراً جزء هام لا يتجزأ من تاريخ وطننا سورية البطلة التي قال فيها الجواهري:
للهِ أنت.. أكلُّ يومك حاشد
برجولة ومروءة وفتاء
أبداً يضوع به لفتيان الحمى
غزل يذوب على لظى الهيجاء
الحارسين الشعب من أعدائه
والشعب يحرسهم من الأعداء
عوذت «جلق» بالضحايا جمة
من كيد هماز بها مشاء
عوذتها بالمالكي ورهطه
من صفوة العقداء والزعماء
ومن هؤلاء الوطنيين الأشاوش العقيد فايز منصور، الذي تعرفت إليه عام 1959 خلال الحملة المسعورة الظالمة ضد الشيوعيين، وفي سجن المزة العسكري جمعتنا القضبان معه، نحن جراء نشاطنا السياسي الوطني المشرف، وهو بسبب اتهامه بتزوير شهادة البكالوريا وقد كان مسجوناً في غرفة قريبة من ساحة السجن. وكنت مسجوناً في زنزانة انفراداية تطل مباشرة على مدخل غرفة التحقيق وعلى حمام السجن، وقد ضمتني هذه الزنزانة على الرغم من أنها انفرادية، مع الرفيق عبد الله أبو شعر الطالب في الكلية الجوية في مصر الذي اعتقل مع عدد من طلاب الكلية وضباطها السوريين، وأعيدوا إلى دمشق ليزج بهم في السجن وقد أمضينا معاً قرابة شهر ننام على المصطبة بشكل متعاكس لضيق المساحة، وجهي مقابل قدميه، ووجهه قباله قدمي. وفي بعض الأيام كان يزج بسجين ثالث معنا لينام على حافة المرحاض.
وبعد خمسة وأربعين يوماً قدمت للمحكمة العسكرية وبعدها انتقلت إلى مهجع للمساحين، وهنا صار مسموحاً لنا «التنفس» وهو فسحة قصيرة من الوقت يخرج منها المساجين إلى ساحة السجن ليسيروا ذهاباً وإياباً «ترويضاً» لأجسادهم، وأثناء هذا التنفس رأيت لأول مرة الطيار البطل فايز منصور وهو يسير في الساحة بجلابيته البيضاء يتبادل التحيات والأحاديث مع كثير من الرفاق مشيداً بنضالهم وبصمودهم وبوطنيتهم، وكان يخص الرفيق عبد الله باهتمام ملحوظ، ولعله كان يرى فيه صورة فتوته يوم كان مثله طالباً في الكلية الجوية، ومما لفت انتباهي أنه عندما يسمع صوت طائرات حربية تحلق عيناه نحوها، وسمعته أكثر من مرة يقول وهو يتابعها هؤلاء النسور الرائعون هم تلاميذي. وعندما خرجت من السجن حاولت أن أستقصي أخبار هذا الطيار البطل فعرفت أنه من مواليد عام 1932 والتحق بالكلية الجوية عام 1953 واتبع دورات تدريب في الاتحاد السوفياتي وفي مصر، وخلال العدوان الثلاثي على مصر شارك الطيارين المصريين في التصدي للطيران المعادي فوق بور سعيد، وفي الأجواء السورية له سلسلة من المعارك البطولية ضد العدو الصهيوني، وقد أسقط ثماني طائرات معادية وأصيبت طائرته مرتين وكان يعود بها إلى المطار ليمتطي غيرها متابعاً مهامه الوطنية المشرفة، وفي عام 1969 قاد معركة الهامة الجوية في الثالث والعشرين من شباط التي اتسعت حتى مشارف ميسلون، وقد شهدت بأم العين قسماً منها، حين كنت في طريقي إلى عملي في ثانوية الزبداني ضمن سيارة سرفيس وقريباً من ضريح البطل الوطني الكبير الشهيد يوسف العظمة حينها هدرت أصوات طائرات حربية وانطلقت القذائف ما دفع سائق السيارة إلى إيقافها فغادرناها مسرعين لننبطح على الأرض نحمي رؤوسنا بأيدينا من بقابا القذائف التي تناثرت على مساحات كبيرة. والجدير بالذكر أن لفايز شقيقين طياريين شاركاه أكثر من معركة وهما محمد منصور ومأمون منصور وقد استشهد الأخير في إحدى المعارك الجوية.
ومن المهات البطولية التي أداها الطيار فايز قصف مصفاة حيفا، وقد استشهد هذا البطل في معركة العرقوب عام 1970 ليسجل اسمه في سجل الخالدين وكرمته مدينته دمشق بإطلاق اسمه على أبرز شوارعها وأطولها أوتوستراد الشهيد فايز منصور الممتد من ساحة الأمويين إلى تخوم مطار المزة العسكري.