الفلاح رهينة بين التاجر والسمسار من يتاجر بالعلف والسماد؟!
يقال إن وزارة الزراعة طالبت الاتحاد العام للفلاحين بالعمل على نشر الوعي بين أبناء منظمتها والتأكيد على عدم الإتجار بالأسمدة المخصصة لمزروعاتهم، لما لذلك من منعكسات سلبية في النهاية على الخطة الانتاجية الزراعية وارتفاع تكاليف الانتاج المترتبة على عاتق الدولة والفلاح معاً.. هكذا يفهم البعض أن الفلاح قليل الوعي هو الذي يتاجر بالأسمدة، وينصح اتحاد الفلاحين بنشر الوعي، اتحاد الفلاحين كما يعلم الجميع سجّل رقماً قياسياً في محاسبة وإقالة رؤوساء روابط وجميعات فلاحية بتهم فساد وتجاوزات ومتاجرة بالأسمدة، ولم يخجل الاتحاد من ذلك وكانت تنشر أسماء هؤلاء وارتكاباتهم في الصحف اليومية السورية.
أين المشكلة؟
قبل سنوات جمع متنفذ مسؤول أكثر من خمسة آلاف هوية من الفلاحين وأعطى لكل فلاح ألف ليرة، واستجر هذا المتنفذ العلف والسماد المخصص لخمسة آلاف فلاح لتستقر في مستودعاته، واحتكر هذه الكمية الكبيرة لتباع لاحقاً للفلاحين في السوق السوداء وبأسعار مرتفعة جداً، ولكن لم تتم مساءلة هذا المتنفذ ولم يحاسب وقد جنى مئات الملايين!.
من قال؟
يقول من قال: لماذا أعطى الفلاح هويته من أجل ألف ليرة وتخلى عن حقه في العلف والسماد؟ وأقول لمن قال: الفلاح كان عبداً ورقيقاً هو وعائلته وأولاده للاقطاعي صاحب الأرض، وبعد تأميم الأرض وتوزيع الملكيات أصبح سيداً، ولكن مع الانفتاح الاقتصادي والتعددية واقتصاد السوق فقد الفلاح سيادته حتى على رزقه وربما نفسه.. وخاصةً عندما تكرست مقولة إن السياحة هي قاطرة النمو وليست الزراعة والصناعة، وصدرت لتوطين وتكريس ذلك قرارات وقوانين أدت إلى تراجع القطاع الزراعي وتراجع مساهمته في الدخل الوطني بسبب ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج بدءاً بالطاقة والسماد والعلف والمبيدات.
وفوق ذلك
أصبح الفلاح رهينة للتاجر وللسمسار والمتنفذ، يستجر السماد والعلف وكل مستلزماته ومصروفاته العائلية من السمسار الذي تبوأ مكان الإقطاعي صاحب الأرض، وبسعر محدد، ويستولي التاجر والسمسار على إنتاج هذا الفلاح وبسعر بأثر رجعي يحدده كما يريد وتبدأ في عام آخر رحلة متاعب واستغلال وسرعة علنية!.
تراجع واضح
انخفض إنتاج المحاصيل الزراعية الأساسية خلال السنوات الماضية بدءاً من القطن إلى القمح والشعير والذرة لأسباب عديدة ليس من أبرزها، الجفاف وإنما ارتفاع مستلزمات الإنتاج من أسمدة إلى طاقة إلى غير ذلك مع أسعار غير ملائمة أقرتها الحكومة، ودليل ذلك تعديل الحكومات المتعاقبة لأسعار القطن والحبوب مرات عديدة، وفي كل الأحوال فإن تحديد الحكومة لأسعار المنتجات الرئيسية والاستراتيجية يجب أن يتم قبل أن يتخذ المزارعون القرارات الخاصة بالإنتاج ويجب أن تؤدي هذه الأسعار إلى حدوث استقرار في السوق وتطور في الإنتاج بشكل متتابع لا إلى تقلص الإنتاج السلعي.
تدخل الدولة
إن تدخل الدولة في السوق يمكن أن يكون له آثار هامة على الأسعار في حال عدم مرونة الطلب من ناحية وعدم مرونة العرض من ناحية أخرى أيضاً، فعندما يكون طلب المواطنين المتزايد على المنتجات الزراعية أكبر من العرض فإن ذلك يؤدي بالطبع إلى زيادة كبيرة في الأسعار، جنباً إلى جنب مع ارتفاع ملحوظ وكبير في مستوى تكاليف المعيشة الذي ينعكس بشكل أساسي على حياة المواطن.
ولكن عندما يكون العرض أكبر من الطلب وتقف مؤسسات الدولة مكتوفة الأيدي وعاجزة عن امتصاص الفائض الناتج، وخاصة بالنسبة للإنتاج السريع التلف (بندورة، ثوم ليمون، برتقال..)، فإن ذلك يؤدي بالطبع إلى انخفاض كبير في الأسعار، ويدفع الفلاح الثمن بالإضافة إلى هدر كبير للاقتصاد الوطني.
سوق الهال
حيتان سوق الهال وشركاؤهم هم الذين يستولون على ربح الفلاح وجهده وعرقه، ومن هنا نجد التمييز بين الأسعار الرسمية والأسعار الفعلية لسلسلة طويلة من المنتجات الزراعية، ويؤكد ارتفاع الأسعار النهائية للمستهلك بنسب كبيرة ذلك، حيث تعكس هذه الفروقات الهوامش التجارية الكبيرة التي يحصل عليها حيتان السوق الهال، هذا قبل تحرير التجارة والأسعار فما بالنا الآن؟.. التاجر والوسيط والسمسار هم المستفيدون أولاً وأخيراً على حساب المنتج والمستهلك معاً.
الخلل الأكبر
يتجلى الخلل الأكبر في أكثر من مكان، ويمكن الإشارة إلى ارتفاع أسعار سلفات البوتاس؛ وارتفاع أسعار سوبر فوسفات؛ وارتفاع أسعار اليوريا؛ وارتفاع أسعار نترات الأمنيوم.. ويسجل أنه منذ إنشاء الشركة العامة للأسمدة لم تتطور لتصل إلى مرحلة تحقق الاكتفاء الذاتي، وهي الشركة الأبرز والأهم في سورية، وتحوي أصولاً ثابتة بقيمة مليار دولار وكان عدد العاملين فيها يقدر بنحو 3500 عامل، وتعتمد في صناعتها على مواد أولية محلية في معظمها، ومنتجاتها تلعب الدور الأساسي في تحقيق الأمن الغذائي للبلاد، وهي مصدر أساسي من مصادر دعم الاقتصاد الوطني وتوفير العملة الصعبة بما تحققه من قيمة مضافة على المواد المستخرجة محلياً، كما أنها تعتبر مصدراً أساسياً ووحيداً للعديد من المواد الكيميائية المهمة للصناعات الخاصة والعامة، وركيزة أساسية لتطوير وإقامة صناعة حقيقية في سورية.
الخلل الإداري
لم تلحظ الحكومات المتعاقبة كل هذه القضايا الهامة وتركت هذه الشركة لتنهب منذ تأسيسها.. والنهب هنا بالمليارات.. وتبين الميزانيات التجارية للشركات أن الخسارة بلغت ستة مليارات ل.س من عام 1979 حتى عام 1999، أما الخسائر الاقتصادية والتوقفات في أعوام لاحقة فتصل سنوياً إلى مليار ل.س، وكانت حجج الإدارات تعزي ذلك إلى سوء التصميم وقدم المعدات، بينما يقول الواقع عكس ذلك تماماً، فالأسباب الحقيقية تتمثل في الهدر في المواد أولاً والهدر في استهلاك قطع الغيار والفساد والعمولات لحفنة من التجار والسماسرة ومدراء وإداريين في هذه الشركة.
أمام ذلك
لم تتوقف سورية عن استيراد الأسمدة، ويبدو أن إنتاج الشركة لا يغطي سوى %40 من الحاجة، لذلك تم تبرير الدور الذي قام به التجار والسماسرة منذ الثمانينيات من القرن الماضي تحت حجة أزمة القطع وعدم توفره، ومازالوا يقومون به ويفرضون الأسعار التي يريدونها، ومن هنا ظهرت السوق السوداء والحالات الاحتكارية من شركاء التجار والسماسرة والفلاح يدفع الثمن.
تقارير المنظمات الفلاحية تؤكد بأن نسب تنفيذ ما زرع للعام الحالي من قمح وشعير وشوندر وزراعات أخرى ترواحت بين %52 إلى %60 وذلك لأسباب عديدة أبرزها عدم توفر الأسمدة اللازمة، ومن جانب آخر تؤكد وزارة الزراعة بأنها أمنت كامل مستلزمات الخطة الزراعية للعام الحالي من أسمدة، وخصوصاً السماد و«الآزوتيلزوم» اللازم للمحاصيل الصيفية.
االمحاصيل الصيفية
المحصلة كانت انخفاض إنتاج المحاصيل الزراعية الأساسية سنة بعد أخرى، ولأسباب عديدة، منها أن أسعار الدولة غير ملائمة، ومنها عدم توفر مستلزمات الإنتاج بالكامل بالطرق النظامية ولكنها موجودة في السوق السوداء.
وخلاصة القول: من أجل تنمية الاقتصاد الوطني ومن أجل قاعدة اقتصادية متينة وتأمين الأمن الغذائي للسلع الأساسية والاستراتيجية، وهو أخطر سلاح للمواجهة، لابد من إعادة النظر بكل ما هو قائم.