من الذاكرة: إن كنت لا تصدق
بناء على طلب من والدي رافقت الوجيه حسين الإيبش قبل عام من وفاته (1967) في زيارة إلى مقبرة الحارة الجديدة بسفح قاسيون، إلى جانب جامع الرفاعي الذي يؤمه الشيخ رمضان والد الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي إمام الجامع الأموي حالياً. وسبب الزيارة رغبه الوجيه في اختيار مكان مناسب لإشادة قبر له،
وبعد أن حدد موضعاً سألني إن كان الموضع يفي بالغرض؟ حينها تأملت هذا الرجل... كبير السن ضخم الجسد... وقور الطلعة، وسرح بي الخيال بعيداً لأستعيد بداية تعرفي إليه، فمنذ ربع قرن اعتدت أن أذهب مع أبي خلال العطل الصيفية إلى عمله في محطة محروقات، والحجة الظاهرة هي مساعدته في بعض الشؤون، أما الحقيقة فهي إبعادي عن الحاكورة ونهر يزيد وتسلق جبل قاسيون، وعن أولاد «آدو».. ثم غدوت أعمل معه في المحطة.
في تلك الفترة المبكرة كنت أرى هذا الرجل وأشعر بالانبهار والإعجاب به عندما يأتي إلى المحطة لتأمين احتياجات موتورات آبار الماء وآلياته من المازوت والزيوت، ومع تفتح وعيي السياسي بدأت أدرك حقيقة الواقع الاجتماعي والطبقي شيئاً فشيئاً وأخذت مشاعر الانبهار والإعجاب تتلاشى، صرت أرد على تحيته حين يزور المحطة بشكل عادي... وقد لاحظ والدي هذا التبدل في تصرفي فراح ينبهني إلى ضرورة إبداء الاحترام الكبير لهذا الرجل فهو بيك وغني جداً.
وفي إحدى المرات عنفني قائلاً: يا ابني.. البيك فضله علينا كبير، ولحم أكتافنا من خيره!! انتفضت محتجاً وقلت بإصرار وثقة: لا يا أبي.. لحم كتفيه هو من خيرك وخير مئات الفلاحين الذين يكدحون في الليل والنهار لتصب حصيلة جهدهم وعرقهم مالاً في صندوقه.. أنت يا أبي أفضل منه... فأنت تعمل من الصباح الباكر وحتى المساء بكل جهد وإخلاص لتوفر لنا لقمة العيش بشرف وكرامة.
وعلى الرغم من غضبه واستغرابه هذا الكلام الجديد الجريء فقد أحسست بما اعتمل في قرارة نفسه.. أحسست من الوميض الذي شع في عينيه باستحسانه الوجداني لتوصيفي الصائب لعمله وفي الوقت ذاته رضاه عن هذا الابن الذي أصبح يفهم ويقدر الأمور.
كما لاحظ البيك أيضاً هذا التبدل... وسألني مرة: أنت لا تحبني؟.. أنت تكرهني؟.. فأجبته: أنا لا أكرهك شخصياً بل أكره قساوتك وشدة تعاملك مع الفلاحين، وعدم إنصافهم. فامتعض من جوابي وأنهى الحديث.. لكنه عاد بعد مدة استمرت شهوراً لم نتحدث خلالها بشيء.. ليقول لي محاولاً كسب ودي: سأروي لك حادثة أرغب في أن تعرفها، ففي عام 1941 أو 1942 وفي منتصف ليلة عاصفة كنت نائماً في بيتي في الهيجانة «البيت هو قصر حجري كبير في صدره علية، فيها ثلاث غرف، ويعرف هذا القصر لدى الناس بالحانوت».. استيقظت على صوت نباح كلاب الحراسة وقرع باب الحانوت، فبادر رجالي إلى فتح الباب وإذ بشاب يسرع في الدخول قائلاً: إنه ملاحق من الفرنسيين. فطمأنته وقلت له: أهلاً وسهلاً.. لا ضير عليك. وبعد ساعتين عادت الكلاب تنبح وتوالى قرع قوي على الباب، ولما فتح رجالي الباب شاهدنا دورية عسكرية فرنسية يقودها ضابط طلب منا أن ندعهم يفتشون الحانوت، فقلت له بالفرنسية التي أجيدها أن يستمهلني دقيقة واحدة وصعدت إلى غرفتي وفتحت باب خزانتي الحديدية وأخرجت وساماً منحتني إياه فرنسا تقديراً لتفوقي في الصيد في رحلات كثيرة مع نبلاء فرنسيين وأمراء بريطانيين في مجاهل أفريقيا وغابات الهند، وضعت الوسام على صدر العباءة التي أرتديها ونزلت إلى باب الحانوت وقلت للضابط: هذا الوسام من دولتك.. فإما أن تصدق أن لا أحد غريباً في الحانوت أو فخذ هذا الوسام وأعده إلى حكومتك.. فما كان منه إلا أن وقف باستعداد وأدى التحية واعتذر وغادر المكان.. هذه هي الحادثة كما وقعت.. أراك تشك في الأمر! إن كنت لا تصدق فاسأل الأستاذ خالد بكداش فهو الذي كان ملاحقاً حينها.