ظاهرة الرقيق الأبيض.. كيف نحدُّ من خطرها على المجتمع؟
تشير آخر الإحصاءات المنشورة في الصحف الرسمية أن عدد السجينات في مختلف السجون السورية ممن اتهمن بممارسة الدعارة تجاوز 520 امرأة، من بينهن 200 فتاة لم تتجاوز أعمارهن السابعة عشرة، كما توجد عشرات الآلاف من الشقق المفروشة والمهيأة أصلاً لممارستها، وخاصة في المدن الكبيرة،
وهناك شبكات داخلية لها علاقاتها مع شبكات الدعارة الخارجية لتسهيل ممارستها باعتبارها إحدى الطرق للاغتناء وذلك لارتباطها بتجارة الحشيش والمخدرات والمشروبات الكحولية والدخان المهرب وغيرها من الأمور التي يعاقب عليها القانون.
يطالب البعض بتعديل القانون رقم 10 الصادر في عام 1961 والذي يعتبر متشدداً حيال من يحرضون على الدعارة أو يساهمون في انتشار الفجور في البلاد، حيث أن هذا القانون يعاقب كل من حرض شخصاً ذكراً كان أم أنثى على ارتكاب الفجور أو الدعارة أو ساعده على ذلك أو سهل له ذلك بالحبس لمدة لا تقل عن سنة، ولا تزيد على ثلاث سنوات، وبغرامة مالية تتراوح من ألف إلى ثلاثة آلاف ليرة سورية، معتبراً أن العقوبة تتشدد في حال كان الشخص المغرر به لا يتجاوز عمره إحدى وعشرين سنة بعقوبة الحبس إلى خمس سنوات، ونصت المادة السادسة منه: «يعاقب كل من حرض شخصاً ذكراً أم أنثى على السفر إلى خارج القطر لممارسة الدعارة بالحبس لمدة لا تقل عن سنة، ولا تزيد عن خمس سنوات، ويعاقب بالعقوبة نفسها كل من ساهم في إدخال أشخاص إلى القطر بهدف ممارسة الدعارة»،أما المادة 13 من القانون ذاته فتنص: «يعاقب كل من اشتغل أو أقام في أماكن الدعارة مع علمه بذلك بالحبس مدة لا تزيد على السنة».
ومع موافقتنا على تعديل هذا القانون لفرض عقوبات أشد على من يمارس أو يساعد على ممارسة الدعارة، لكون هذه الظاهرة تسيء إلى المرأة أولاً وأخيراَ وتحول جسدها الى سلعة، نتساءل: هل تشديد العقوبات وحده سيساهم في الحد من هذه الظاهرة التي تغلغلت في جسم المجتمع السوري بعد أن أغلق محلاتها في ستينيات القرن الماضي، وخصوصاً في دمشق وحلب ؟!.
كل الوقائع تشير إلى أن هذه الظاهرة ليست في بداياتها فقط بل أصبحت قضية أمر واقع يعيشه المجتمع السوري على مضض، لقد انتشرت انتشار النار في الهشيم كما يقول المثل، ومن أجل تحسين ما تسمى بـ«صناعة السياحة» يجري في كثير من الأحيان التغاضي عن ممارسيها والمسهلين لها.
إذاً المشكلة ليست بنص القانون، ولا بحجم العقوبات الواردة فيه، بل وحتى لو تشدد القانون إلى الحد الأعظم بعقوباته سيبقى هناك من يمارس هذه المهنة القذرة، والتي تعتبر أقدم مهنة في تاريخ البشرية.
تقول الماركسية: «إن أخلاق أي مجتمع تحدده أخلاق الطبقة السائدة فيه»، كما تقول أيضا «إن أخلاق أي مجتمع تتحدد بالواقع الاقتصادي فيه»، لذلك فإن نشوء هذه الظاهرة سببه سيادة أخلاق البرجوازية الطفيلية التي ترى في جمع الثروة غايتها وموطنها مهما كانت الوسيلة حقيرة، كما أن تردي الأوضاع المعاشية وانتشار الفقر والبطالة وغيرها كلها عوامل تساهم في انتشار هذه الظاهرة.
لذلك، فإن المطلوب حقيقة تعديل كل التشريعات التي تمس حياة المرأة بحيث تصان حقوق المرأة صيانة حقيقية، إذ أن كثيراً من النساء والفتيات دفعن لممارسة هذه المهنة دفعاً، سواء من أهلهن أو من أزواجهن، أو أنهن وقعن في فخ رجال لا يعرفون الشرف ولا أخلاق لهم ولا ضمير، ثم إن تحسين الحالة المعاشية للمواطنين من الفقر المدقع، وإعفاء المجتمع من حجم البطالة الهائل، ومن تدني الأجور وفقدان العدالة في توزيع الثروة، كل ذلك سيساهم بدوره في الحد من هذه الظاهرة البغيضة.
وهناك قضية مهمة جداً للحد من ظاهرة ممارسة الدعارة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار ليكون العمل للقضاء عليها مجدياً، وهي أن ممارسي ومسهلي الظاهرة منظمون تنظيماً حقيقياً في بعض الأحيان، سواء على التسلسل أو التفرع، حيث يوجد في كل مدينة مسؤول تنظيمي لهذه المهنة، ولديه مساعدون، وكل هؤلاء لهم علاقات وطيدة بمخافر الشرطة وبعض الأجهزة الأمنية الفاسدة التي تحميهم لقاء رشاوى معلومة يتقاضاها الحامون لهم دورياً، ولهم كذلك ارتباطات مع شبكات دعارة خارجية، فمجيء المومسات من دول عديدة لم يكن مصادفة بل هو عمل منظم ومدروس ويدر أموالاً طائلة ضمن إطار ما يسمى بتجارة الرقيق الأبيض، لذلك فإن القانون لو نص على عقوبات رادعة وكان من أفضل القوانين في العالم سيبقى حبراً على ورق إن لم تقم أجهزة الأمن المختصة، وخصوصاً المخافر، بعملها على أكمل وجه، وهذا يعني محاربة ومحاسبة الفاسدين فيها حتى قبل الممارسين لها، وإلا سينطبق عليهم المثل القائل بعد كل ما فعلوه أو سيفعلونه من أجل محاربتها «كأنك يا أبو زيد ما غزيت».
وأخيراً لا بد من ايلاء قضية وظائف السجون والاهتمام بها والتي ليست فقط أماكن لتنفيذ العقوبات بحق المدانين، بل يجب أن تتحول هذه السجون وخصوصاً سجون النساء إلى مراكز لتأهيل المسجونات واعادتهم لطريق الصواب وتعليمهم مهناً أخرى تساعدهم في تأمين حاجياتهم وحياتهم بعد الخروج من السجن، وعلينا أن لا ننسى أن هناك الكثيرات من النسوة والفتيات أمضين فترة عقوبتهن وخرجن من السجن ليعدن إلى ممارسة المهنة نفسها باعتبارها المهنة التي لا يعرفن غيرها بكل أسف.