ملف الفساد في المصالح العقارية يأخذ أبعاداً جديدة.. لماذا التلكؤ بالبدء بمحاكمة عادلة ونزيهة للجميع؟!
استطاعت صحيفة قاسيون من خلال أكثر من تحقيق موثق، أن تسلط الضوء على الفساد الكبير في مديرية المصالح العقارية، وأن تفضح جملة واسعة من صفقات الفاسدين وسلوكهم المشبوه، بعد أن ضربوا أرقاماً قياسية في اعتدائهم على أملاك الدولة وبعض الأملاك الخاصة.. وبناء على ما أشرنا إليه واستناداً لمجموعة معطيات أخرى، تحركت الجهات ذات الصلة، وقامت بحملة واسعة من التحريات حول ما كُتب، لتسارع بعدها إلى إلقاء القبض على العديد من الفاسدين من كل الحجوم، وعلى عدد من المشتبه بفسادهم، وحتى بعض الأبرياء.. وفتحت تحقيقاً واسعاً في القضية، ثم أخلت سبيل من رأتهم غير متورطين، وأطلقت البعض الآخر ليُحاكموا طلقاء، وحولت العشرات إلى السجن المركزي.. بانتظار محاكمتهم.
وقد مر على كل ذلك ما يقارب السنتين.. لكن المحاكمة لم تبدأ فعلياً، ومايزال الموقوفون يحولون من محكمة إلى أخرى، وتؤجل جلساتهم من أسبوع إلى آخر، دون أن يصار جدياً إلى النظر في كل جرم، وحجمه، وطبيعته، كل على حدة.. وليستمر أهالي الموقوفين، وخاصة زوجات الفقراء منهم، ومن ذهبوا كـ«فرق عملة» في هذه المعمعة، يعانون الأمرين وهم يلهثون من محكمة إلى أخرى، ومن قاض إلى آخر، ومن السجن المركزي إلى القصر العدلي ومعهم محاموهم للتسريع في المحاكمة.. ولكن دون جدوى..
اللافت في الأمر، أن عدداً لا يستهان به من الموقوفين أكد التحقيق والدلائل أن لا شأن واسعاً لهم بقضية الفساد، وأنه سيتم تبرئتهم أو إطلاق أحكام صغيرة بحقهم فيما لو تم تسريع المحاكمة، وأن مدة حبس بعضهم على ذمة الدعوى قد تفوق ثلاثة أضعاف الحكم الذي سيصدر بحقهم فيما لو تم تجريمهم..
كل ذلك لا يزعزع يقيننا أن قسماً من الموقوفين والطلقاء، وخاصة الموظفين والمتواطئين الكبار منهم، هم مذنبون بشدة، واعترافاتهم تؤكد ذلك، ومع ذلك فمنهم من يحاكم طليقاً!! بينما هناك من ثبت حصوله على رشوة بقيمة خمسة آلاف ليرة، ومع ذلك يحاكم موقوفاً!!
بناء على كل هذه التناقضات رفعت زوجات بعض الموقوفين كتاباً إلى رئاسة الجمهورية يطالبن بتسريع المحاكمة، ملتمسن إخلاء سبيل بعض الموقوفين، جاء فيه:
السيد رئيس الجمهورية..
قبل عامين وبتاريخ 20/4/2009 وضمن تداعيات ما عرف بالصحافة بـ«ملف الفساد في المصالح العقارية»، تم توقيف أزواجنا، ثم أحيلوا إلى القضاء بتاريخ 10/9/2009، وأحيلت الدعوى إلى قاضي التحقيق الذي استجوب كل موقوف لمدة دقيقة ونصف لا أكثر بحجة أن عدد الموقوفين كبير (54 موقوفاً). ولم يتوسع بالتحقيق وفقاً لما تفرضه قوانين وأصول التحقيق أمامه، بل اكتفى بهذا الاستجواب القصير، وأصدر قراراً وفقاً لما جاء في ادعاء النيابة، وهذا الادعاء أكثر بكثير مما جاء في تقرير التحقيق الذي أحيل إلى القضاء مع الموقوفين بحجة أن «الأمن يراقب الملف» فهو خوفاً من الأمن لا يستطيع أن يقوم بالتحقيق أصولاً بالموضوع، وبالتالي لا يستطيع إخلاء سبيل أيٍّ من الموقوفين بحجة «أنهم سارقو أملاك الدولة»، وأحال الملف مع القرار والموقوفين بعد أن تم توقيفهم لديه أكثر من ستة أشهر إلى قاضي الإحالة بتاريخ 4/3/2010 الذي بدوره أيضاً لم يستجوب أحداً، ولم يأت بأي شاهد، ولم ينظر بالدعوى وفقاً لما تفرضه عليه أصول المحاكمات، وبعد أن بقي لديه الملف أكثر من شهر ونصف أصدر قراراً جرّم فيه كل المدعى عليهم، وبدون إخلاء سبيل. وقال بالحرف الواحد «إن قلبي يقطر دماً وأنا أكتب هذا القرار لأني غير مقتنع بما أكتب كون هذه الإضبارة تحت المجهر....
سيدي الرئيس:
إن ما قام به قاضيا التحقيق والإحالة يخالف المبدأ الرئيسي الذي تهدف إليه كل من مؤسستي قضاء التحقيق والإحالة معاً، فهما لم يخليا سبيل الموقوفين خوفاً من أن هناك أدلة يخشى ضياعها أو إن إخلاء سبيل المدعى عليهم سيؤدي إلى استمرارهم بنشاطهم الجرمي أو خوفاً من قيامهم بطمس الأدلة، بل أن ما قام به قاضيا التحقيق والإحالة هو تجريم الموقوفين قبل أن يتم تجريمهم بقرار (قضائي) بحجة أن الأمن يراقب الإضبارة. وقد كانا «ملكيين أكثر من الملك» إذ جاء قرارهما أكثر بكثير من الاتهامات الواردة في تقرير المخابرات الجوية.
أحيل الملف إلى محكمة الجنايات بعد صدور قرار قاضي الإحالة بتاريخ 12/4/2010 إلا أنه لم يخل سبيل سوى أربعة موقوفين (توقيفهم خطأ من البداية) من أصل أربعة وخمسين بحجة أنه «لسّا بكير» وكأنه حكم عليهم مسبقاً. وحتى الآن يجري تأجيل الجلسات بحجة عدم اكتمال الخصومة، أي منذ ستة أشهر.
سيدي الرئيس:
شكلت حرية المواطن أهم ما سعى إلى حمايته الدستور السوري حيث نص صراحة على عدم جواز تعريض حرية المواطن للاعتداء، كما منع احتجاز الأشخاص دون توفر سبب مشروع، فضلاً عن أنه كرس المبادئ التالية:
تقديس الحرية الشخصية للمواطن وكفالة الدولة لها (مادة 25 منه).. والمتهم بريء حتى يدان بحكم قضائي.. ولا يجوز تحري أحد أو توقيفه إلا وفقاً للقانون (مادة 28 منه).
سيدي الرئيس:
التوقيف الاحتياطي ليس من أنواع العقوبات، إنما هو تدبير احترازي وقائي شرع لغايات محددة لايجوز مخالفتها أو تجاهلها، وبالتالي لا يجوز تحويل التوقيف الاحتياطي إلى عقوبة أو الخروج به عن الحدود والضرورات التي شرع أصلاً لأجلها باعتبار أن لا عقوبة إلا على جريمة ولا جريمة إلا بنص.
بعض الموقوفين لا علاقة لهم بأملاك الدولة حيث أن بعضهم عاملون في «مكاتب توثيق عقاري» وأخطاؤهم مادية بسيطة لا تستوجب مثل هذا التوقيف.
بعضهم خبراء فنيون قاموا بعملهم وفقاً للأصول القانونية.
بعضهم قضاة عقاريون قراراتهم مصدقة ومبرمة من محكمة الاستئناف (علماً أنه لم يتم توقيف قضاة محكمة الاستئناف ولا محامي الدولة ولا ممثل أملاك الدولة).
وحتى المخطئ فيهم من حقه محاكمة عادلة وفقاً للأصول من دون تحامل من المحكمة عليه ومن دون تخوف هذه المحكمة من الجهات الأمنية كون الجهة الأمنية رفعت يدها عن الملف وأحالته إلى القضاء.
سيدي الرئيس:
تم صرف أزواجنا من الخدمة قبل أن يصدر الحكم بإدانتهم أو براءتهم، وتم الاستيلاء على عقارات الملف كاملاً دون انتظار صدور قرار من المحكمة يشير إلى أن تصرفات الموقوفين صحيحة أو خاطئة. وبالتالي تحديد ما إذا كان العقار المفترض ملكاً للدولة أو للأفراد.
لم يتم إخلاء سبيل أحد منهم بحجة «لسا بكير». علماً أن توقيف بعضهم تجاوز مدة عقوبته في حالة إدانته.
أليس هذا كله دليلاً على أنه قد حكم على هؤلاء الموقوفين توقيفاً احتياطياً، مسبقاً قبل الشروع بالمحاكمة وقبل صدور قرار بتبرئة بعضهم وإدانة آخرين.
هؤلاء ليسوا أربعة وخمسين موقوفاً بل أربع وخمسون عائلة من زوجات وأطفال وأمهات وآباء.
من أين نأتي بمصروفنا ومصادر عيشنا خصوصاً وأننا في فصل الشتاء، أي مازوت ومدارس ومصاريف كثيرة ونحن لا مورد لنا، ولا معين إلا الله عز وجل وسيادتكم، وإننا على هذه الحال منذ /21/ شهراً. صحيح أن القليل منا عاملات ولكن مع ذلك دخل واحد لا يكفي لمصروف عائلة، فكيف بالتي لا تعمل ولا مورد لها فهل نفتح أفواهنا للهواء؟
وسيادتكم لا ترضون بذلك ولا ترضون تشرد تلك العائلات خاصة وأنكم من تنادون دائماً وفي محافل عدة بتماسك الأسرة وبنائها بناءً صحيحاً كي نبني مجتمعاً صحيحاً قوياً.. لذا جئنا راجيات إخلاء سبيل أزواجنا ومحاكمتهم طلقاء محاكمة عادلة دون تلفيق تهم لهم.. ودمتم عوناً ونصيراً للمظلومين».
الزوجات يتحدثن
تقول السيدة (ت): لدي ثلاثة أولاد صغار وزوجي كان سائقاً بالمصالح العقارية، وعليه دفعات من قرض بمبلغ مليون ليرة سورية.. أكبر أولادنا عمره أربع سنوات.. تم اتهام زوجي بالفساد بسبب صلة القربى مع المدير العام وباعتباره سائقه!! أهذا هو القانون؟ ما أريده هو إخلاء سبيل زوجي، والتأكد من كافة المعلومات التي قيلت في المحكمة.
السيد (ع): أكدت أن حجة القاضي بعدم إصدار الحكم بإخلاء سبيل من هو متأكد من براءتهم، أنه لم يتم إبلاغ البعض الذين ما يزال بعضهم خارج البلاد! فما ذنبنا نحن ولا معيل لنا وأولادنا كلهم في المدارس والجامعات؟.
السيدة (ياء) قالت إن بعض الموقوفين ليس له أية علاقة بهذا الملف، والقاضي يدرك ذلك، ومع ذلك لا يتم إطلاق سراحهم.. فما هو السند القانوني بذلك؟
السيدة (ح) أكدت أن حجة التأجيل الدائمة هي استكمال الخصومة.. وهذا قد يكون مستحيلاً من الناحية العملية، فبعض هؤلاء قد هرب، وبعضهم في محافظات بعيدة.. فهل تستمر هذه المأساة إلى الأبد؟
• كلمة أخيرة
المطلوب هو تسريع عمل المحكمة، والعمل بجد على ألا يذهب الأبرياء بجريرة المذنبين، وألا يوضع الجميع في مرتبة واحدة، فيتميع الجرم، وتتبدد الحقيقة.. وهذا برسم المؤسسة القضائية التي يفترض بها أن تضع القانون نصب عينها دائماً، فلا تحيد عنه، ولا تتجاوزه..