البرزخيون السوريون!
خمسة شهور، تلك التي تفصل بين كلماتي هذه وبين آخر مرة كان بيني وبين القلم فيها مساس، ولعمري ما كان ذاك لعقم في الكلمات ولا لجفاف في القلم، بل مرده كما يزعم المحللون إلى ما يسمى بالحياة السورية البرزخية، تلك التي مر بها كثيرون، وسيمر بها آخرون قبل أن يطوي الزمان صفحاته متجاوزاً ذاك الشكل الغريب من الحياة.
ومما لاريب فيه أن إطلاق لفظة الحياة على تلك المرحلة فيه تجنّ على الحياة، فهي في الحقيقة حالة لا تبقيك في الحياة وإن أنبأت الدماء في عروقك على أنك حي، وهي أيضاً لا تميتك مع أنك فيها ميت، فيراودك فيها، في كل ساعة، أن تعض على بعض جزئيات جسدك المتآكل حتى تستيقن بقاءك حياً، على أنك تتمنى في سريرة نفسك ألا تكون كذلك.
يطوي الليل النهار دون أن تدري، والشمس تجري لمستقر لها دون أن تدري، والقمر ينزل منازله دون أن تدري، وتبقى زخات المطر تداعب وجه الأرض الغامر دون أن تدري.
ساعات تلك الحياة طويلة، فاليوم فيها كألف سنة مما تعدون، ساحاتها بضعة سنتيمترات عن يمينك وأخرى مثلها أو أقل منها عن شمالك، ومن فوقك سقف عالٍ يقبع في منتصفه ضوء ساطع يبقيك مستيقظاً طوال الليل وطيلة النهار، لا شيء فيها يدهش الأذهان إلا ذاك الوجه الذي قد يظهر في هاتيك الجدران، يخاطبك ويحدثك حين يهم عقلك بالابتعاد.
قناتك مع ما يسمى الدنيا كائن حي مختلف عن بقية الكائنات، إذا رأيته، ولا أتمنى لك ذلك، تعلم أني لم أتجنّ عليه حين رأيته، فاستغلظته وقلت ما هذا بشر.. إن هو إلا شيطان رجيم، وهو يدخل صارخاً ويخرج ضارباً، يسعى جهده وبكل ما أوتي من قوة ليوفر لك حياة ملؤها التعاسة والشقاء، ولا يساورنك شك أنه قد يفعل.
والمستهجن أن معظم أبناء سورية صاروا عرضة ليحيوا مثل تلك الحياة البرزخية، وبجميع شرائحهم، وعلى مختلف مستوياتهم الثقافية والتعليمية والمهنية والمادية، فهم جميعاً سواسية لا فرق فيهم بين غني ولا فقير، متعلم ولا جاهل، وصدق أو لا تصدق: بين معارض ولا مؤيد وللأسف أقولها: بين صغير ولا كبير، إلا بالمدة.
تلك الحياة قد تطول وقد تقصر دون ضابط يحددها أو قانون ينظمها... أستغفر الله من قولي، فالضابط هو الذي يحددها، فيأمر إن شاء بإدخالك فيها إدخالاً، وإن شاء بعدُ فيخرجك منها إخراجاً، أما القانون فليس له بها شأن، أو غائب عنها حتى حين، ورجال القانون الذين يبشر بأنهم قد يقفون لها بالمرصاد لم يعودوا هم أنفسهم بمنأى أن يقعوا فيها، بل بعضهم واقعها بالفعل.
وفيها يصح قول الناظم:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها
فلسنا من الأموات ولسنا من الأحيا
إذا جاءنا السجان يوماً فرحنا
وقلنا جاء هذا من أهل الدنيا
وأنا إذ أكتب عنها لا أبغي أن أصفها، ولا أن أتحدث عن مشاعري فيها، ولكن إن أريد لك أياً كنت وأينما كنت، إن كنت مسؤولاً في بلدي، أو صاحب قرار في وطني، أو رجل حوار على أرضي، أو صاحب كلمة أو قلم أو فكر أو غيره... أن تتوجه بكلّيتك لتنقذ أبناء سورية وأطفالها وشبابها وشيوخها من تلك الحياة البرزخية، وأن تسعى جهدك ليعود كل سوري إلى حياته وأهله وإخوته ورفاقه، ويعود حقاً من أهل الدنيا... فالبرزخيون يعتمدون عليك في ذلك، يصرخون في داخلهم لتسمعها أنت، ثم تصرخ بها في كل العالم: أغلقوا المعتقلات وأخرجوا المعتقلين!.
■■