بين قوسين عش كريماً!

بين قوسين عش كريماً!

هل يلعب المكان دوراً في توجهات الكاتب؟ على الأرجح نعم، فمن يقطن في غرفة معلّقة في بناية وسط العشوائيات مثلاً، ليس كمن يتمتع برفاهية الفضاء الرحب

بالطبع فإن هذا الأمر لن يصح على كاتب ليس لديه ما يقوله في الأصل، حتى لو كان يغوص بين بحر الكتب، أو يدخّن غليوناً، لكن قراءة كتاب اسمه «أين كانوا يكتبون: بيوت الكتّاب والأدباء في العالم» أيقظ الظنون لدي، وشعرت بكآبة طويلة من أحوال الكاتب العربي مقارنة مع عشرين كاتباً من العالم. الكتاب أنجزته الصحفية الفرنسية فرانسيسكا بريمولي- دروليرز، والمصوّرة إريكا لينارد، إذ قامتا بجولة للتعرف عن كثب على الأماكن التي شهدت ولادة أعمالٍ عظيمة بتواقيع كتّاب أمثال همنغواي وجان كوكتو وهيرمان هيسه وفرجينيا وولف، من دون أن نجد كاتباً عربياً واحداً، وهذا أمر طبيعي، طالما أن هذا الكاتب بالكاد يجد مكاناً لطاولة الكتابة في بيت مستأجر غالباً. المثير أن معظم هؤلاء الكتاب سكنوا قصوراً، من إيراد كتاب واحد. تقول مارغريت دوراس إنها ابتاعت بيتها في ضواحي باريس مما حصلت عليه من حقوق كتابة سيناريو فيلم «جسر على المحيط الهادئ»، ثم عاشت عزلة كاملة لكتابة رواياتها «أظن أن هذا البيت هو الذي أوحى لي بالكتابة». بالقرب من كنيسة «سان بلاز ليسامبل» الباريسية، يرقد جان كوكتو (1963)، فيما بقي الزمن معلّقاً في بيته المجاور، وكأن صاحبه لم يغادره قط. كتابات ورسوم على الجدران، ومكتبة تحتشد بالكتب والأوراق والمخطوطات، ولوحات لصديقه الحميم بابلو بيكاسو. بالنسبة لكاتب جوّال مثل لورانس داريل تبدو الأمكنة مجرد ذكريات عابرة، فصاحب «رباعية الإسكندرية» لم يستقر في مكان إلى أن استهواه أخيراً، بيت عتيق في الجنوب الفرنسي. هناك شعر بحميمية الجدران ورحابة حديقة المنزل، فانكب على الكتابة والرسم إلى آخر يوم في حياته (1990). بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب 1949 أضحى بيت وليم فولكنر في الجنوب الأمريكي مزاراً للفضوليين على أمل رؤية صاحب «الصخب والعنف» يتمشى في الممرات المكتظة بشجر الصنوبر، لكنه كان يهرب من زواره ويتجنب رؤيتهم، ورغم ذهابه إلى هوليوود لكتابة سيناريوهات للأفلام، إلا أن شغفه بالجنوب تفوّق على ما عداه. هناك انطفأت شمعته الأخيرة (1962)، وبقي منزله صامتاً يعج بأشباح الماضي بظلاله وأسراره ومشهد حزين «من القناني الفارغة المصطفة تحت المدفأة وكلمات لا تزال تتنفس فوق جدران مكتبه». سيضيع  زائر مزرعة الروائي النرويجي كينيت هامسون بين ثمانية هكتارات من الأشجار، وعشرات الغرف، إذ تمكن هذا الرجل المتشرد أن يحقق حلمه بأن يكون كاتباً، وكانت روايته «الجوع» طريقه إلى الثراء والشهرة، فهو لم يتردد باقتناء كرسي لويس السادس عشر، لكنه كان يفضل أن يخلو بنفسه داخل كوخ بناه في حديقة قصره في «نورهولم». لن نذكّر أن الألف نسخة التي يطبعها الكاتب العربي المشهور تحتاج إلى نحو ثلاث سنوات كي تخلو منها رفوف المكتبات، وأنه غالباً ما يعيش مديوناً إلى آخر سطر يكتبه في حياته، فيضطر الورثة إلى بيع مكتبته على الرصيف!!