الصناعة الوطنية تحت شعار حكومي جديد: العودة إلى الداخل... عودة الدعم على جناح عصفور!
غسان القلاع رئيس غرفة تجارة دمشق يعلق على القرارات التي تنوي الحكومة اتخاذها لدعم الصناعة الوطنية أخيراً بالقول: (لا يوجد نظام اقتصادي في العالم يقوم بدعم الصناعات على مدار سنوات.. يجب الاعتراف بذلك).
في الموضوع ذاته يعلق جاري الحانوتي: (بكير) يا حكومة؟.
زميل في المهنة يقول: لقد خرسنا ونحن نكتب عن ضرورة الالتفات إلى دعم الصناعة الوطنية بدل البحث عن بدائل لدى الآخرين، واليوم، وفي أزمتنا الكبيرة يأتي من يريد دعمها كمن يحاول أن يعالج متأخراً مريضاً مصاباً بمرض عضال.
ولكن ثمة من يرتاب من كلمة دعم، وهي التي أخذت الحصة الكبيرة من تصريحات الحكومة السابقة، وبعضاً من وعود الحكومة الحالية التي نامت عليها من قبيل دعم المازوت الذي ما زالت تفكر فيه وفي آلياته حتى اللحظة.
العودة إلى الداخل
تحت هذا الشعار عادت الحكومة إلى نغمة دعم مفردات الاقتصاد السوري، وهذه المرة دعم الصناعة الوطنية في خطوة اعتبرها البعض متأخرة، وعلق البعض عليها بأنها ضرب من المستحيل تحقيقه خلال المدة الزمنية التي وضعتها الحكومة والتي تقع بين 3 – 5 سنوات.
العودة إلى الداخل شعار تم إطلاقه في ندوة جمعت بين أعضاء الفريق الاقتصادي الجديد، ولفيف من التجار، وإن غاب كثير منهم، والشعار هو الخطوة الأولى في مشروع حكومي سوف تقر آلياته قريباً، ويهدف كما يقول واضعوه إلى دعم الصناعات الغذائية والمفروشات الجاهزة، وفق جدول زمني.
العودة إلى الداخل في صناعات بدأ بعضها يتلاشى أو يتهاوى أو يئن، وأما لماذا هذا الانتباه إلى الداخل الآن فهو سؤال كان مودعاً لدى الحكومة السابقة التي ساهمت في هذا الخراب، ويعني الحكومة الحالية في جدية قرارها وشعارها، أما أنه في الطريق إلى مصير آليات سبقته تحدثت عن دعم سلع وأجور وفئات.
انقلاب على السوق المفتوحة
ولكن هناك من يطرح السؤال التالي: هل دعم الصناعات الوطنية وفق شعار العودة إلى الداخل يعني الإطاحة باقتصاد السوق الاجتماعي المفتوح، والعودة إلى اقتصاد ما قبل الدردري؟.
هل يعني هذا رسم خارطة اقتصاد سوري جديد يعيد الاعتبار لسياسات تبنّي الدولة للقطاع العام على أساس أنه المخرج الحقيقي لاقتصاد أنهكه الاحتكار والخصخصة والسعر المفتوح؟.
هل سيرضي هذا مجموعة التجار الذين بالتأكيد لن يسرهم هذا، والذين طالما ناضلوا لينتزعوا الدعم لهم مقابل تعرية القطاع العام، وتركه وحيداً في وجه منافسة غير متكافئة.
هل سنشهد عودة (العز) لمفروشاتنا، وألبستنا الداخلية على حساب الصيني والتركي والأوكراني؟ وبالمقابل هل سيرضى تجار الشنطة بأن تغلق هذه المنتجات أرباحهم الكبيرة التي يجنونها من بضائع رخيصة؟.
صنع في سورية
الشعار الذي يثير الفخر عندما يقلب سوري مغترب قميصاً فيقرأ عبارة تبكيه، أو أن يتباهى اقتصادي كبير ومصدّر ببضاعة سورية تحيكها أصابع عاملات النسيج السوريات اللواتي بالكاد يستطعن العيش من أجورهن الزهيدة في القطاع الخاص، أو عاملات معمل الشرق للألبسة الداخلية القطنية.
لكنها على أرض الواقع مجرد أوهام بعد ضياع الورش الصغيرة، وتهاوي المعامل وشركات القطاع العام أمام حمى استهلاك الرخيص، وغلاء الخيط الوطني، والحماية التي رفعت عن هذه الشركات كرمى لفتح السوق بدون رقابة لانجازات المجالس الاقتصادية العليا التي لم تنبس ببنت شفة في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وكانت في مؤتمرات فنادق النجوم الخمسة تطلق شعارات التعاون، والإستراتيجية المشتركة، ومن ثم يتبادل المؤتمرون صور تذكارية، ومصافحات إعلامية.
غرفة صناعة دمشق غابت عن اجتماع الشيراتون، وهي التي دعت إلى دعم المنتج الوطني من خلال حملات كثيرة تحت عنوان (صنع في سورية) و(اشتر منتج بلدك).. في وقت رفعت الحكومة الحماية عن منتجات صناعية وسواها، وفتحت السوق للاقتصاد القادم من كل حدب وصوب ليمارس مقامرته أمام مصانع ومعامل وورش عزلاء.
فورة الاستهلاك.. وغلاء الحاجيات
يروي المواطنون حال سنوات السوق المفتوحة التي اجتاحت حياة السوريين على خطتين حكوميتين اقتصاديتين أوصلت الناس إلى العوز في سوق تحوي كل شيء، وقادرة على استجلاب كل شيء.
معتز (د)، تاجر وصاحب أحد محلات بيع الكهربائيات في شارع خالد بن الوليد، يرى أن كل شيء متوفر بعد أن سمح بالاستيراد، وصار التاجر حاكماً لبضاعته، ودون تدخل الدولة، وهذه الحال استمرت في السنوات القليلة السابقة وجنى الكثيرون أرباحاً طائلة، ولكننا الآن وفي هذه الأزمة فقدنا الزبون القادر على شراء بضاعتنا.
موزع كهربائيات سورية في (المرجة): في السنوات الأولى من التجربة تجاوزت أرباحنا ما كنا نحلم به، من مراوح وتلفزيونات، وبرادات، وغسالات، وفي السنوات الثلاث الأخيرة ونتيجة الأوضاع الاقتصادية ومنافسة المستورد بدأنا بتخفيض أسعارنا، ومن ثم عمدنا إلى فتح الشراء بالتقسيط، وهذا يعني أرباحاً قليلة وحركة سريعة، والآن بالكاد نعيد ما دفعناه من رأس المال.
محمد (ز) مواطن: نحن من ندفع الضريبة، كل ما وعدونا به من كماليات سحب ما في جيوبنا، من الخليوي الذي يساوي (البلاش) الآن بعد أن فقط للأغنياء، وسعر خط الموبايل وصل إلى 50 ليرة بعد أن دخل علينا بـ 60 ألف ليرة سورية.. وقس على ذلك الدشات والريسفرات وكل عدة الفضائيات.
يختصر العم أبو محمد مشكلة المواطن السوري: الجمل بفرنك وما في فرنك؟ دائماً كانت حياة الفقير في بلدنا تسير على هذا المنوال.
معتصم (أ) موزع بضائع: الحالة يرثى لها، بضائع غير موجودة في السوق، والتجار الصغار الذين يطلبون بضائعنا لم يعودوا قادرين على الدفع، والمشكلة أن المواطن لم يعد قادراً على الدفع.
في مقابل فورة الاستهلاك تعرضت سلع كثيرة لهزات كبيرة، من غلاء ربط أحياناً بالسوق العالمية، و فقدان حاولت الدولة ترقيعه عبر مؤسسات التدخل، ومن أهمها السكر كحاجة استهلاك يومية وصل سعر الكغ في أحيان كثيرة إلى 70 ليرة سورية.
أما الزيوت والسمون التي توافرت بماركات وفرتها علاقات الانفتاح لكنها عادت إلى الغلاء بسبب الحصار الاقتصادي، وانتهازية البعض، وهنا نلمح أحد أوجه اقتصاد السوق الذي سمح لطفيليين بالتحكم بأسعار السلع الأساسية في غياب رقابة الدولة وتدخلها بالتسعير.
آليات إعادة الدعم
النتائج المرعبة للسياسات المتوالية من رفع الدعم الحكومي عن قطاعات الصناعة الوطنية ما زالت تلقي بظلالها القاسية على المواطن تاجراً أو مستهلكاً، والمواطن الذي كان يقنع ببضاعته المحلية اضطر للانتقال إلى سوق مفتوحة، واحتلت المستوردات الرخيصة على شكل أسواق صينية وواجهات تركية ومحال أوكرانية أسواقنا، واختفت وراءها ماركات (بردى، الشرق.. الخ).
اتهمت الشركات الوطنية بالتخلف، وعدم قدرتها على الحفاظ على إنتاج منافس، وقدمت لها الدولة في ظروف منافسة غير شريفة رواتب موظفيها، وهددوا بأرزاق أبنائهم، وأحيل كثير منهم إلى وزارات التربية والإدارة المحلية ليتحولوا من عمال ومهنيين إلى مستخدمين وأذنة.
أما سوق المفروشات الذي تتميز به ريف دمشق فقد حل مكانه السوق الجاهزة الرخيصة، وصارت غرف النوم الوطنية التي تصنعها أياد وطنية ماهرة مجرد أخشاب كاسدة تصلح في أحسن أحوال سوقها كحطب للمدافئ.
الألبسة الوطنية لم تكن في حال أفضل، اليوم تباع بالجملة القطنيات في شارع الثورة كنتائج لما وصلت إليه هذه الصناعة الوطنية، وفي الجانب الآخر حيث المحلات تباع الألبسة التركية كمنافس صعب المراس، وينافسها الصيني في الجسر الأبيض كرخيص وأنيق ولا يعني هذا الجودة، وفي الشعلان تتحاور امرأة روسية مع نسوة على سعر قطعة قماش.
أنس (د) صاحب ورشة خياطة سابقة في كفرسوسة من على ظهر دراجته الهوائية: أغلقت ورشة الخياطة التي كانت تعيش من أرباحها القليلة ثلاث عائلات، وكما ترى أعمل الآن موزعاً لبضاعة الآخرين، وبالكاد يمكن أن أعود إلى السوق في المناسبات حيث تنشط الحركة، والخيوط غالية، ويجب أن تدفع إلى السوق بضائع يستطيع المواطن العادي شراءها، وزبوننا من نفس الطبقة مسكين وفقير.
الدعم الذي لم تقدمه الحكومة حين أصر عليه التجار وأصحاب المهن تعود الحكومة الآن إلى الحديث عنه، ولكن كيف ستعيده الحكومة إلى قطاعات منهكة تحتاج إلى أكبر من الدعم.
أنس يقول إنه باع مكنات الخياطة التي يملكها، فهل ستشتري له الحكومة مكنات جديدة أم ستقدم له قرضاً لشرائها لا يمكن أن يسدده؟
الحال التي يعيشها أنس هو حال آلاف الورش الصغيرة في دمشق وحلب كأكبر منتجين هذا عدا عن الورش الصغيرة المتناثرة على كامل الوطن.
التجار.. قرار مستعجل
وصف التجار ما تحدث عنه وزير الاقتصاد بالمستعجل، والوزير تحدث عن عزم الحكومة على وضع خارطة دعم: (نريد رسم خريطة لدعم الصناعة، وتشجيع الصادرات بغض النظر عن نوع تلك الصناعة وسنقر اليوم الشروط والمعايير والآليات بحيث ننتهي من وضع تصور عن دعم الصناعة مع نهاية هذا العام).
القرار مستعجل بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي فرضها الحصار، والعقوبات على قطاعات كبيرة، وأن ظروف الإنقاذ تأتي في ظل واقع اقتصادي متهالك، وخصوصاً تجار دمشق الذين عبر عن رأيهم الدكتور (القلاع) في استهجانه للخطوة وزمن انجاز الدعم.
هكذا... يستعاد الدعم؟
القرارات المستعجلة التي وصل إليها المجتمعون ترى الحكومة أنها كفيلة بتحقيق الدعم للصناعة الوطنية، ومن هذه القرارات.. إعادة النظر بآلية فرض الرسوم الجمركية على الألبسة الجاهزة، وتغيير السعر الاسترشادي المعتمد في الاستيراد، وإلغاء آلية الكيلو واستبدالها بآلية الفاتورة المباشرة، والنظر بآلية استرداد الرسوم المفروضة على الألبسة المصنعة، والدعم التقني والإداري للمعامل من خلال هيئة تنمية الصادرات، والنظر بآلية دفع اشتراكات التأمينات الاجتماعية، ودعم جزء من الكهرباء والماء.
ولكن... إذا أرادت الحكومة لخطة الدعم وخارطته الجديدة أن تتحقق فيجب عليها ضمان تنفيذ هذه الآليات، وأن تفكر في استعادة ما خسرته في سحبها الدعم، ونحن نعرف أن الهدم أسهل من البناء.. ما هدم في سنوات رفع الدعم لن يستعاد سريعاً في خارطة السنوات الخمس؟.