موسم الحكومات.. و(تسويق الأمل)!
(الشعب المتعب ينتظر بفارغ الصبر الحكومة الجديدة)! يحاول الإعلام الاقتصادي المحلي إقناع السوريين، بأن عليهم أن يترقبوا جديداً من الحكومة القادمة، وأن يتنفسوا الصعداء لأن (الحكومة السابقة) ترحل.. على اعتبارها (أصل البلى)!
ولكن هل ينطلي هذا على السوري الذي خبر تبدل الكثير من الوجوه الحكومية خلال عقود، مع المحافظة على ذات الطعم واللون والأداء الرديء؟! من الصعب أن يصدق السوريون بأن حكومة هي السبب، وحكومة أخرى هي الحل! لأن تجربتهم أيضاً تقول بأن اتجاهاً واحداً للأمور هو السائد رغم تغيير الحكومات، فالسياسات كما هي خلال العقود الأخيرة: تسارع في تدهور الوضع الاقتصادي للبلاد، وتحديداً أوضاع معيشة عموم السوريين، وقدرتهم على تأمين حاجاتهم الأساسية بكرامة، مقابل توسع مظاهر البذخ والترف، وانحصار روادها، بالداخلين في منظومة الفساد والاحتكار الكبيرة والمتشابكة والتي تتوزع الحصص، وتتنازع عليها، منذ السبعينيات تقريباً، عندما شكلت أموال الخليج المتدفقة على سورية -بوسطي مليار ونصف دولار سنوياً- مورداً هاماً لتشكل (أكبر الكروش)..
من الصعب أن يقتنع السوريون بمحاولات التسويق الرديئة لهذا الوجه الحكومي أو ذاك، لأن التجربة علمتهم أن القرار يأتي من أصحاب القرار الفعليين، والذين وضعوا الليبرالية الاقتصادية نصب أعينهم وتحديداً منذ عام 2005. ثم أتت الأزمة، والأداء الاقتصادي خلالها ليوضح بشكل غير قابل للنقض، بأن تبني الليبرالية هو (قرار صلب)، لم تبدله كل الويلات التي لحقت بالسوريين!
لا يعني هذا أن الحكومات معفاة من المسؤولية، فهي بالطبع تستطيع أن تنفذ القرارات بجودة أعلى أو أقل، وتستطيع أن توظف الموارد العامة التي تقع تحت إشرافها ومسؤوليتها بحجم فساد أقل أو أكثر، وهي بالتالي مسؤولة إلى حد بعيد عن تدهور سير عمل الاقتصاد الوطني، والمشاركة في نهب موارده والإثراء منها، إلا أنها ليست المسؤولة عن تحول نهب المال العام إلى نموذج وحصة سنوية قدرها الاقتصاديون السوريون بـ 50% قبل الأزمة.. الحكومات لا تستطيع أن تغير السياسات والقرارات، بل تستطيع أن تجعلها أكثر أو أقل تأثيراً بحدود معينة، ولا أدل على ذلك من قرارات رفع و«تعديل» أسعار المحروقات، ومنها قرار اليوم، والتي تمر بسلاسة وبشكل متكرر بغض النظر عن مسألة أي حكومة اتخذت تلك القرارات.. بالتالي فإن المسؤولية الكبرى تقع على من يصيغ السياسات الليبرالية ويتبناها، وهي التي تفضي حكماً إلى تعزيز هيمنة نخبة الفساد والاحتكار.
إن أية حكومة قادمة، أيّاً كانت وجوهها لن تقوم بزيادة الأجور الحقيقية، وتقليص حصة الأرباح، ودعم الإنتاج الوطني، وحماية الليرة، وإعادة الدعم، وبناء دور الدولة الاقتصادي الفاعل، إلا إذا كانت القوى الاقتصادية المهيمنة والتي تناسبها الليبرالية، قد تراجعت من حيث النفوذ والتحكم بالقرار، وهذا لا يتم إلا إذا كان أصحاب المصلحة الحقيقية بالقطع مع الليبرالية، وهم عموم السوريون الفقراء المتعبين قد أصبحوا رقماً يصعب تجاهله على المتمادين في تكييف السياسات مع المصالح الضيقة للنخبة.
إن مستوى احتقان السوريين على الجبهات، وفي خيم العزاء، وفي الأماكن الساخنة، وضمن طوابير المساعدات، وأمام موائدهم الفارغة، وفي الأسواق الممتلئة بما لا قدرة لهم على مناله، وفي كل مكان في هذه الأوقات الصعبة، يتحول إلى عنصر ضغط على من جوّع السوريين وربح من انتهاك كرامتهم، ولكن هذا ليس جديداً! إلا أنه يصبح ملحّاً وقريباً، بالنسبة لمن يدركون جيداً ان التغيرات السياسية قادمة لا محالة.
لن يقدم الليبراليون اليوم تنازلات تحت ضغط الاحتقان العام للسوريين، إلا أنهم يحاولون أن يكيفوا خطابهم مع الأمر الواقع الذي يقول، أن الناس تنبذهم، وتحملهم المسؤولية. وهو ما يجعل الحديث عن الوضع الاقتصادي أمراً لا يمكن تجاهله، ويتحول إلى الشغل الشاغل (لمسوقي الأمل)، الذين يبدأون (هجومهم المرّ) على الحكومات السابقة، ويبنون الآمال على الحكومات اللاحقة..
إن طريق إنقاذ الاقتصاد السوري هي طريق واحدة، لا تتم إلا بالقطع مع الليبرالية، وكسر قوة رعاتها ونفوذهم، عبر ضغط المتضررين من السوريين المتعبين، ليبنوا نموذجهم الاقتصادي للمرحلة القادمة بعد أن يستعيدوا قدرة (حكوماتهم على الحكم)! ويستعيدوا قدرتهم على التأثير بالقرار الاقتصادي وأدواته الرئيسية: جهاز الدولة، والموارد العامة، وهذه كلها مسلوبة وموظفة اليوم بعكس مصلحة السوريين وبلادهم، ولكن (غداً لناظره قريب)..