وحده المواطن...أبداً

وحده المواطن...أبداً

 

نا لا أصدق أن أحداً قلبه على المواطن وأحواله، وأن لا أحد ستثيره التفاصيل الدقيقة عن حياة الناس القاسية، وهنا أقصد أولئك الذين يجلسون في مكاتبهم، ويمر الهواء الساخن من بين سراويلهم، ويتحدثون عن المعاناة التي وصل إليها الناس كما لو أنهم يحضرون فيلم (بورنو) مثير.

وحده المواطن يعاني، ويلهث خلف كل الحاجيات الحياتية الأساسية وسواها، ويرمي وجهه على أبواب محطات الوقود والأفران وباصات (هرشو) وموزعي الغاز، ولا أحد يلم هذا الوجه الذي تعفر بالغبار، وغمره الوحل، ورفسته الأرجل المسرعة في أربع جهات، وأحياناً إلى أعلى حيث الهواء ربما يرميه خائباً أمام باب بيته في أحسن الحالات، وبالأغلب على قارعة الرصيف.

وحده المواطن... سيعود إلى منزله في نهاية هذا العبث، ولن يفرح بقدومه أحد، لا الزوجة ولا حتى الأولاد، ستهتم به العتمة فقط، حيث يمكن أن يجلس متخيلاً نفسه في بيت دافئ، وجيوب منتفخة بالمال الحلال، وعدة قطع حلوى لابنته الصغيرة، وثوب أحمر لزوجته، وجوارب جديدة لحذائه الممزق بعد أن صار الحذاء الجديد حلماً.

وحده المواطن... سيصحو في اليوم الثاني من حلمه، ويدور كالثور باحثاً مرة أخرى ودون يأس عما يقيت أبناءه، وعما يجعلهم يتحلقون حول مدفأة حارة تجعل ضحكاتهم أعلى، ممسكاً بكالون المازوت بيد، واسطوانة الغاز باليد الأخرى، وفي الطريق إلى الطابور الطويل سيسمع المذيعة تتحدث عن حظه وبرجه السعيد، ويسمع أول اللقاء الذي تجريه المذيعة المحلية مع طبيبة التغذية التي تتحدث عن فوائد (الكيوي)، والموز والأناناس للأطفال، وكيف تساهم هذه الفاكهة في رفع مستوى ذكاء الطفل.

وحده المواطن في عتمته، يدافع عن بقائه بالحلم، وهو يفقد كل يوم مقومات حياة اعتادها، فليس كثيراً على السوري أن يستمتع بالكهرباء لساعات ليست طويلة، وأن يحضّر أبناءه لامتحانهم دون شموع ستصيب عيونهم بأذى على المدى الطويل، وأن يركب الباص الكبير جالساً ولو مرة واحدة، وأن يذهب إلى محطة الوقود فيملأ بهدوء ما يحتاجه من وقود دون أن يفترسه تاجر الأزمة في هذا الشتاء البارد.

وحده أبداً... أنشودة المسؤول، ومعزوفته المفضلة التي ستبقيه دافئاً ومنتفخاً أبداً.