مصر . . وماذا بعد؟
كان حجم التظاهرات والاحتجاجات في مصر، ضخماً، كما توقعت حركة “تمرُّد” والمعارضة الديمقراطية المؤتلفة في “جبهة الإنقاذ الوطني” . لكن الذي لا مِرْيَةَ فيه أن ما بعد 30 يونيو سيختلف عما قبله، وأن ما كان ممكناً قبلاً لن يعود كذلك بَعْداً، وما كان ممتنعاً سيصبح، بعد هذا التاريخ، في حكم الإمكان .
الشيء الوحيد الذي نخشاه جميعاً، ولا نتمناه، أن ينزلق الصراع في مصر - وهو اليوم بلغ من الاحتداد ذروةً - إلى التعبير عن نفسه بلغة العنف، فهذا خط أحمر على الجميع ألا يتخطاه صَوْناً لمصر، ولوحدتها الوطنية، وسِلْمها الاجتماعي الذي يتربّص به الكثيرون .
لم يكن يوماً عادياً أمس في تاريخ مصر المعاصر، وقد لا يشبهه في استثنائيته سوى اليوم الخامس والعشرين من يناير،2011 الذي فتح الطريق أمام رحيل نظام مبارك من السلطة، فلقد يجوز أن يوصف يوم الثلاثين من يونيو بأنه عقدة التناقضات وبؤرتها في مصر، إذ هو اللحظة التي تجمّعت فيها تلك التناقضات كافة، التي لم تستطع المرحلة الانتقالية - المسلوقة سلقاً - ولا فترة عام من الرئاسة أن تفكَّ اشتباكها، وتوفّر لها أجوبة سياسية مناسبة، وإذا كانت فترة الثلاثين شهراً، التي تفصلنا عن “ثورة 25 يونيو”، قد شهدت ضروباً متنوعة من تصريف تلك الكتلة الهائلة من التناقضات (الاجتماعية والسياسية) تصريفَ تقسيطٍ، فإن الخشية من أن يفتح هذا اليوم حقبة تصريفها بالجملة . أمّا المخافة الكبرى فمن أنْ يركب هذا التصريفُ مَركبَ القوة المجرّدة التي تُنذر علائمها - من أسف شديد - بالشرّ المستطير، وخاصة أن الاحتقان جاوز حدوده، وأعصاب المتواجهين مشدودة كأوتار كمان مهيأة لعزف الآلتو!
الجميع أوصل مصر إلى امتحان الثلاثين من يونيو: السلطة والمعارضة على السواء، ومن ورائهما من شاؤوا، من القوى الدولية والإقليمية (وفي جملتها قوى عربية!)، أن تنتهي “الثورة” المصرية هذه النهاية التي يستولي فيها فريق سياسي واحد على السلطة بدعوى “حاكمية” صناديق الاقتراع، وأن يباركوا لهذا الفريق تَفرُّدَهُ بالسلطة . من النافل القول إن مقادير المسؤوليات تتفاوت، وإن من استحوذ على السلطة غير من أقصي منها وهُمِّش، وإن من يملك المطالبة بالحقوق غير من يملك الاستجابة، وإن من يتوسّل أجهزة الأمن في مواجهة معارضيه، غيرُ مَن يتوسّل جماهير مدنية عزلاء . . إلخ . المسؤوليات متفاوتة، قطعاً، بل مختلة التوازن، لكنها مشتركة في النهاية، ويخطئ من يَحصُرها في النظام القائم وينزّه المعارضة عن الإسهام بنصيبها فيها .
هل كان حتماً على مصر أن تصل إلى 30 يونيو؟
قد يكون من المبكّر الإجابة، بدقة، عن هذا السؤال، فضلاً عن أنها تستدعي تحليلاً مفصّلاً وموسَّعاً ليس هنا مجاله، غير أن في الوسع الاعتقاد أنه كان يمكن التخفيف من حدة 30 يونيو، ومن وطأتها، على مصر والمصريين لو بُذل جَهد قليل لهذا الغرض . نكتفي - هنا - بمثال واحد لذلك: خطاب محمد مرسي يوم الأربعاء 26 من يونيو/حزيران .
كان يَسَع محمد مرسي امتصاص حال الاحتقان العامة، وبث الطمأنة في النفوس بأكثر من طريقة، إذا لم يكن يستطيع أن يعلن التنحي - مثلما فعل مبارك - ولا يستطيع التبكير في تنظيم انتخابات رئاسية، فلا أقل من أن يتفادى فتح جبهات كثيرة عليه وعلى نظامه والحركة التي إليها ينتمي . كان يستطيع أن يتحدث عن القضاء باحترام شديد يليق به، كمِدْمَاك من مداميك الدولة، لا أن يدخل في حديث نقدي يصل إلى تسمية قضاة بعينهم، واتهامهم بالفساد وبممالأة النظام السابق . وكان يملك أن يخاطب الشباب والمتظاهرين بطريقة أخرى، كما يخاطبهم قادة الدول الديمقراطية، من دون أن يُقْحِم في الموضوع “البَلْطجة” و”البلطجية” . وكان يَسَعه أن يتكلم باحترام على المعارضة فيتجنّب عبارات الإيحاء السلبي بأنها تتوسّل “فلول النظام السابق” و”البلطجية” في معارضتها للسلطة . كان سيكون أقوى لو أقرَّ بحق “تمرّد” والمعارضة في تظاهرات 30 يونيو، كحق ديمقراطي، بدلاً من سوق عبارات الوعيد والتهديد بإجراء “عملية جراحية” تأخرت في نظره . ما الذي ننتظره، في مثل هذه الحال، من القضاة والصحافيين والشباب والمعارضة . . ومن 30 يونيو؟
المصدر: الخليج