اقتصاد الكيان: العدوان ... الأداء والعلاج المباشران
هناك ثلاثة محاور لقراءة أثر العدوان اقتصادياً على الكيان الصهيوني والذي بدأ في الثامن من تموز على قطاع غزة. وقد ناقشت في جريدة «الأخبار» اللبنانية محور «ريعية» اقتصاد الكيان الصهيوني وهو نقاش تعلق بالمدى المتوسط والطويل أكثر منه بالمدى المباشر أو الجاري.
في هذا المقالة أناقش الأثر الاقتصادي المباشر على الكيان وآليات العلاج التي يطرحها قادته.
بداية، هناك ملاحظتان:
الأولى: إن تناول التفاصيل الاقتصادية وليس السياسات، هو عمل اقرب إلى الإعلامي والإخباري وليس التحليلي.
والثانية: صعوبة أن يُعالج امر جارٍ بشكل مناسب لأنه أمر جار.
بداية، لا بد من الإشارة إلى أن الاستيطان الرأسمالي الأبيض ومنه الصهيوني هو مشروع اقتصادي وإن غُلّف بالعوامل الدينية والثقافية. هو مشروع يقوم عادة على ظاهرة الاستعمار. وهي ظاهرة قوة وإمكانات متفوقة على أهل البلاد الأصليين. وفي العادة يتم إخفاء الجوهر الاقتصادي المادي المصلحي وإظهار المستوى الديني والثقافي لتسهيل تبرير ذلك. هذا مع العلم أن اي تدفق للمستوطنين هو محفوز بالمصالحة المعيشية على الأقل، وإلا لما كان استعماراً بل كما يزعم منظرو الاستعمار: «عمل تطويري أو استعمار إيجابي». وعلى أية حال، لو صح هذا الزعم على الاستعمار العسكري والاقتصادي والثقافي فهو لا يصح على الاستعمار الاستيطاني.
هذا إضافة إلى أن مستوطني جنوب فلسطين بدأوا يجهزون قوائم التعويضات مع الأيام الأولى للعدوان، وهذا يبيّن العلاقة المادية كأساس بين المستوطن والسلطة بمعنى أن المستوطن آتٍ بحثاً عن بحبوحة عيش وليس على أرضية إيديولوجية كما يتم الزعم. ومن هنا أهمية متغيرات الحروب الخيرة للكيان حيث بات المستوطنون بشعرون بأن الأمن التام الذي طالما وُعدوا به ليس حقيقياً، ولهذا تأثيره سواء في من يهاجروا وفي من يجرى إغراؤهم بالاستيطان.
المستوى المصلحي هو ما نقرأه في حالة الكيان الصهيوني الذي جلب معه هيكل دولة رأسمالية متقدمة (في حينه مقارنة مع وضع الشعب الفلسطيني) كما انه بدأ محمياً من النظام الرأسمالي العالمي وهي حماية غير دينية اساساً.
ولذا، دأب الكيان على الزعم بأن «الدولة» هي دولة الجميع وذلك كان من السهولة بمكان تمريره في مراحل بناء دولة الاستيطان الأولية. ولكن تطور البنية الاقتصادية للكيان نقل «إسبرطة» من معسكر إلى بنية طبقية استغلالية بلا مواربة لا سيما في حقبة العولمة والسياسات الليبرالية الجديدة والتي منها الخصخصة. وربما هذا أحد مآزق الكيان اي محاولة الحفاظ على الزعم الإسبرطي إلى جانب تفارقات طبقية هائلة.
إلى جانب تطورات مهمة في معسكر خصم الكيان بمعنى، أنه لم تعد له اليد الطولى سواء بنقل الحرب إلى ارض العرب أو بكسب الحرب بلا كلفة. بدأ ذلك التغيّر في حرب اكتوبر 1973 حيث كانت المبادأة عربية، ثم هزيمته في جنوب لبنان علم 2000 ولاحقاً صد هجومه على لبنان حيث توقف نقل الحرب إلى خارج فلسطين المحتلة، وحالياً صمود غزة اليوم وتكرار سقوط الصواريخ في المحتل 1948 سواء من جنوب لبنان أو قطاع غزة.
الأداء الاقتصادي في الحرب
خلال الشهر الأول من العدوان على غزة، بدأ التضعضع الاقتصادي من الشركات الكبرى في الكيان إذ توقفت عن عقد الصفقات. وذلك سواء لترددها هي نفسها بمعنى حذر رأس المال في أماكن الخطر، او كذلك عدم قيام شركات في الخارج بطلب صفقات من شركات الكيان. هذا ناهيك عن تجميد إرسال واستقبال صفقات أو تأجيل تنفيذها بسبب الحرب.
خطورة هذا على الكيان قائمة في ما ترويج الكيان لنفسه بانه منطقة أمان وسلام ولا سيما منذ مفاوضات مدريد ومن ثم اتفاق أوسلو. لنقل بأن هذا يهز التجارة الخارجية للكيان ليس الآن فقط ولكنه يؤخذ بحسبان الشركات الأجنبية لاحقاً بعد جولة الحرب هذه. على الرغم من الدور الريعي الذي كان مثار تشجيعها سابقاً كما اوضحنا في المقالة السابقة.
كما تردد أو توقف المشترون للسلع المكلفة كالسيارات وسلع الرفاه، وشراء العقارات وهذا يهز السوق المحلية وهو أمر يتكامل سلباً من مشكلة التجارة الخارجية، وتوقف الناس عن الذهاب إلى المطاعم والمخازن والمتاجر الكبرى (مول) وهرب السواح وبالطبع ألغيت رحلات عديدة من الخارج وإليه بعد الإغلاقات المتكرة لمطار اللد (بن غوريون).
تجدر الإشارة إلى أن الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة تعتبر الطلب/ الاستهلاك مؤشر نجاعتها ونموها. ولذا تحرص السلطات على حفز الطلب/ الاستهلاك بمختلف السبل.
حتى الآن حديثنا في نطاق الأثر في النخبة الرأسمالية، ولكن على النطاق الأوسع، فقد شهد الكيان تردداً وتراجعاً في دفع الضرائب. فعند الأزمة تبحث الناس عن الاحتفاظ بما لديها من سيولة مالية، وإذا ما تأزم الوضع أكثر تذهب إلى سحب أرصدتها من المصارف. وكل هذا يفك العلاقة بين الفرد والنظام أو السلطة.
فعلى المستوى العام لوحظ تدنٍ في دفع الضرائب، وهذا كما تقول صحيفة «هآرتس» راجع لسببين:
الأول الإحجام عن الإنفاق وقت الأزمات. والثاني، الانتظار إلى ان ينفذ وزير الاقتصاد قراره بتخفيض ضريبة القيمة المضافة إلى درجة صفرية. وبغض النظر عن دقة تقديرات الاقتصاديين في الكيان لحجم الخسائر، فإن ما يشتكون منه هو تباطؤ الطلب/ الاستهلاك.
ولذا، بدأ المصرف المركزي الصهيوني بوضع سيناريوهات لتنشيط الاقتصاد وذلك عبر توفير سيولة في ايدي المستهلكين على اعتبار ان وجود السيولة هو مدعاة للطلب/ الاستهلاك. لذا يتم التوجه لتخفيض الفائدة لتصل إلى أقل من معدلها الحالي وهو نصف من واحد في المئة، اي لتصبح مثل أوروبا ربع من واحد في المئة.
وبهذا فإن الكيان يتبع خطى الدول الغربية التي تعيش أزمات عميقة منذ عام 2008 ما يكشف لا مباشرة عن شعور بعمق الأزمة وبخاصة إذا ما امتدت الحرب.
وفي هذا الخصوص يناقش اقتصاديو الكيان الأمر من باب أن الأزمة الناتجة من الحرب قد اثرت هكذا، فماذا ستكون عليه الحال لو واجه الكيان صدمة ناتجة من ارتفاع اسعار النفط وتراكبت الأزمتين معاً. وهذا يفتح بالطبع على مواقف الأنظمة العربية النفطية من الحرب بمعنى لو انها قامت بمجرد التلويح برفع اسعار النفط لكان لذلك صداه ليس على الكيان وحده بل على السوق العالمية ما كان سيشكل رديفاً قوياً للمقاومة وتحويلها بالاقتصاد إلى موقف عربي قوي وضاغط. هذا يفتح النقاش على الدور العربي الرسمي في دعم الكيان لا مباشرة وبتوجيه أميركي من جهة، وهذا دون أن نذهب لتاكيد التغطية المالية من دول عربية لكلف الحرب التي يقوم بها الكيان، أي من دون تأكيد أو نفي ذلك من جهة ثانية. كما يقترح المصر ف المركزي الصهيوني لتنشيط الاستهلاك ان تقوم الدولة بتقديم فوائد ضريبية لذوي الدخل المحدود بمعنى تخفيض الضرائب عليهم مما ينتهي إلى توفير سيولة مالية بايديهم وهذا يقود إلى تنشيط الطلب/ الاستهلاك.
وفي هذا يقلد الكيان ما قام به جورج بوش بضخ المليارات في السوق المالية الأميركي حين انفجار الزمة المالية الاقتصادية في الولايات المتحدة، وما قام به أوباما لاحقاً من حيث فتح مجالات تشغيل... الخ.
وربما تظهر مشكلة الكيان أكثر حين نسمع بعض الاقتصاديين يقولون بأن استمرار الحرب سيقود إلى معالجة الأزمة بخطوتين أخريين: إما بطباعة مزيد من النقود الورقية أو الحصول على مساعدات من الجاليات والراسماليين اليهود في الخارج مثلاً، ولذا نرى إعلانات دعاية لشراء منتجات إسرائيل.
وهذا يعيد إلى الذهن أن هناك إسرائيل ثلاثية البنية:
ــ الكيان الصهيوني نفسه.
ــ المخزون البشري خارج الكيان والذي كانت تشكله روسيا.
ــ المخزون التمويلي وبخاصة يهود الولايات المتحدة.
لعل اللافت في دور الراسماليين اليهود في هذا الصدد أن هؤلاء الراسماليين يشكلون رديفاً اقتصادياً للكيان. وهذا يدفع للمقارنة بين دور الراسماليين اليهود لمصلحة الكيان وبين الحكام النفطيين العرب الذين يربطون مساعداتهم للفلسطينيين بالقرار الأميركي سواء من حيث وقت ومآل المساعدات إن حصلت!
إحدى العلاجات المقترحة وقتياً هو ما يسمونه رفع القدم عن كوابح الاقتصاد التي تحول دون التضخم المالي، اي ضخ نقود رخيصة في الاقتصاد ليجد الناس سيولة باليد مع تسهيلات للاعتمادات ذات الكلفة الأقل على اعتبار أن هذا يشجع الإنفاق ما يعيد تشغيل ماكينة الاقتصاد وكذلك تحرير كوابح القطاع العقاري.
في مناقشة مختلف السناريوهات يلجأ الاقتصاديون في الكيان إلى استخدام الحلول التي طبقتها الولايات المتحدة وإلى حد ما الاتحاد الأوروبي. لكن السيناريو الذي لم يناقشوه بعد، وهذا متعلق باستمرار الحرب، وهو لجوء الدولة لتوفير السيولة اللازمة إلى وضع يدها على صناديق التقاعد. هذا ما طرحه ديك تشيني في الولايات المتحدة عند تفجير البرجين في نيويورك (11 أيلول) معتمداً على الدستور بمعنى انه يسمح للدولة باستخدام هذه الصناديق في حالتين: إذا مرت الدولة بأزمة استمرت ربعين من السنة متواصليين أو إذا دخلت حرباً. حيث اعتبر تشيني ان 11 أيلول هي حرب.
تقديرات أولية
من حيث تقدير الكلف وخسائر الحرب بالمعنى الرقمي، لا توجد بالطبع تقديرات لكلفة العدوان العسكري نفسه، وربما يعتقد البعض أن الولايات المتحدة سوف تعوض الكيان عن كل هذه الخسائر او الكلف التسليحية، وهذا صحيح إلى حد كبير لكنه يحمل مخطرين:
الأول: تقويض حلم الكيان بالاعتماد على نفسه ذات زمن (كما اشرنا في المقال السابق).
والثاني: فقدان دوره كاستثمار استراتيجي وبدء تحوله إلى عبء على الإمبريالية الأميركية.
وحتى الخسائر في القطاع المدني، فإن الرواية الاقتصادية للكيان تتحدث عن الحدث والسياسات وليس الإحصاء الرقمي إلا بتحفظ وندرة، مثل ان الإنتاج الأهلي الإجمالي خسر 7 مليار شيكل، وبأن عدم دفع الضرائب يكلف مئان ملايين الدولارات... الخ. وهذه ليست جردة حسابية بل تقديراً عاماً.
زيادة الضغط على المقاومة، طرح مؤخراً الجنرال المتقاعد جيئورا أولاند ان بتوقف تاكيان عن توريد المواد الغذائية لقطاع غزة والوقود... الخ بحجة انه يقدم مقومات المقاومة لعدوه زاعماً أن غزة «دولة مستقلة». ومن دون الخوض في مسألة الاستقلال، فإن وقف التزويد يحتوي مخاطر ومضاعفات عديدة، يهمنا منها في هذا المقال أن ذلك لو حصل سيكون ضربة للقطاع الاقتصادي التقليدي في الكيان الذي جعل سوق المناطق المحتلة أسيرة له.
وهذا يضيف شريحة جديدة إلى الشرائح الاجتماعية المحتجة على السلطة نظراً لتضررها من الحرب، ومنها الشركات الرأسمالية الكبرى وخصوصاً في التكنولوجيا المتقدمة مدنياً وعسكرياً وشبكة التفيدين من قطاع السياحة الذي يوفر قرابة 8 في المئة من الإنتاج القومي الإجمالي للكيان.
* كاتب عربي ــ فلسطين
المصدر: الأخبار اللبنانية