هذه فلسطين وليست «حماس»
لا تكتفي التغطية الإعلامية لأحداث العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وردود الفعل عليه، بكشف حقيقة وأعماق المواقف السياسية من هذا العدوان، بل تتجاوز ذلك الى الكشف عن أعماق المواقف الإنسانية منه.
لقد تراوحت هذه المواقف في التغطية الإعلامية بين حدين أقصيين: حدٌ اعتبر هذه الأحداث عدواناً إسرائيلياً على القطاع وأهله، وكل شعب فلسطين في كل ارجائها، وحدٌ اعتبرها عدواناً فلسطينياً على إسرائيل. وبالطبع فقد صدرت تغطيات إعلامية كثيرة تراوحت بين هذين الحدين، أهمها بلا شك التغطية التي كانت تساوي بين إدانة كل أشكال العنف والمساواة بين عنف الجلاد، وعنف الضحية رداً عليه.
إن تفسير هذه التغطيات الإعلامية، وبالتالي المواقف السياسية المختلفة، لا بد من أن يمر بموقف كل طرف مما يعنيه له قطاع غزة وسكان هذا القطاع: هل هو تعبير عن كل شعب فلسطين، صاحب القضية المعلقة منذ ستة وستين عاماً، بالسيطرة الاستعمارية الاستيطانية على ارضه، وطرده منها، وحرمانه من كل حقوقه السياسية، أم هو مجرد بؤرة إرهاب، يسيطر عليها الإرهابيون، وبالتالي فإن كل شيء يبرر الوحشية التي يمكن ان تذهب اليها العمليات المتكررة، للخلاص من هذا الإرهاب، وهؤلاء الإرهابيين؟.
باختصار شديد وتركيز أشد، يمكن القول إن السؤال الرئيسي المطروح على كل أصحاب التغطيات الإعلامية المختلفة حتى التناقض: ماذا يعني لك قطاع غزة؟ هل هو قطعة اصيلة من فلسطين التاريخية؟ هل شعبه هو تجسيد حي مستمر لنكبته وقضيته المستمرة منذ العام 1948؟ هل سكان قطاع غزة هم مجرد رعايا لحركة «حماس»، وبالتالي فكل من يعتبر «حماس» تنظيماً إرهابياً يعتبر سكان قطاع غزة إرهابيين يغطون هذا التنظيم، لا بد من الخلاص منهم بأية وسيلة مهما كانت وحشية؟ ام أن «حماس»، اختلفنا معها او اتفقنا، هي فصيل من فصائل مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي، والاستيطاني الإسرائيلي المتمادي لهذا الاحتلال؟
لا بد من المسارعة إلى أن ما يعنينا ليس مجرد مقارنة نظرية بين مختلف اشكال التغطية الإعلامية، لكن ما يهمنا بالتحديد هو التناقض الذي بدا فاضحاً هذه المرة، اكثر من اي مرة سابقة، لدى الاطراف العربية: أحزاباً كانوا، ام قوى سياسية، أم انظمة حكم رسمية، أم اجهزة اعلامية تمتلك فضائية أو أكثر.
ان ما صدر عن كثير من الانظمة العربية، والجهات العربية، هو فاضح، لانه مبني على عداوة دفينة لحركة «حماس»، والخلط بين «حماس» من جهة، والقضية الفلسطينية من جهة ثانية، والشعب الفلسطيني من جهة ثالثة، حتى أننا (وهذا هو الشيء المرعب) بدأنا نلاحظ ظهور تيارات مختلفة في هذا الشأن في اوساط النخب المصرية. فبعضها، وهو حتى الآن صاحب الصوت الأكثر انخفاضاً، يقف تماماً وبوضوح ضد عدوان اسرائيلي غاشم على قطاع غزة، لكن تيارات اخرى، اعلى صوتاً تنظر الى ما تقوم به اسرائيل (يا للعار) بأنه قصاص تستحقه حركة «حماس» رداً على تحالفها مع حركة «الإخوان المسلمين»، وقطاعاتها في صحراء سيناء.
لقد ذهبت اسرائيل في وحشيتها هذه المرة الى إبادة عائلات كاملة، بالعشرات، لمجرد رغبتها في التخلص من عضو في «حماس»، او «الجهاد الاسلامي». فهل هؤلاء الشهداء، الذين لم يخجل البعض من اعتبارهم مجرد قتلى، هم تعبير انساني عن شعب فلسطين، وقضية فلسطين ام انهم مجرد افراد ارهابيين ينتمون الى حركة «حماس»؟
إن الصمود الإسطوري للمقاومة في غزة، وللأسر التي يختلط دمها في كل يوم مع طعام الإفطار او السحور، لا بد له في هذه المرة من ان يحدث الصحوة اولاً لدى المشاعر العربية التي تبلدت، والضمائر العربية التي تحجرت، والانحرافات التي أصابت كثيراً من العقول العربية، فيعيدها للإدراك البسيط، بأن عداوة إسرائيل والحركة الصهيونية موجهة الى الخلاص من كل أطفال عرب غزة (يسمونهم في اسرائيل، الثعابين الصغيرة في غزة)، في حلم للقضاء قضاءً عنصرياً كاملاً على شعب فلسطين بكامله، وليست موجهة الى ضرب حركة «حماس»، التي لا مانع لدى اسرائيل وحلفائها، من عقد اتفاقات التهدئة معها، والجلوس اليها للتفاوض السياسي.
إنها فلسطين التي تحاول اسرائيل والحركة الصهيونية ذبحها وتصفيتها، وليست حركة «حماس».
المصدر: السفير