اليسارويون العرب ومحنة بلاد الرافدين
من نكد الدهر على العرب عموماً ولا سيما العراقيين أن يقرأوا أو يروا بعض من يتكلم عنهم بلغة يساروية وهدفه أبعد من نصه أو قوله، لا سيما وهو يروم توجيه رسائل الى من هو عدو لليسار الحقيقي أو منافق ومشوّه لقيم اليسار والوطنية والديمقراطية، وخصوصاً من العرب.
فما يمر به العراق لا يحتاج الى عناء كبير في التحليل والتنظير. الامور أكثر من واضحة. وما يكابده من محنة ساهم فيه اكثر من طرف... لقد احتُلّ عام 2003، ووضع الاحتلال الصهيوــ غربي اسس نظامه، المحاصصة المكوناتية بمفهوم الغرب الانغلو أميركي المتصهين وتفتيت وحدته الوطنية وإلغاء دولته وعمودها الجيش والعمل على تشكيل جديد تحت منطق اختلال واحتلال استعماري امبراطوري. وما جاء بعد ذلك هو تطبيق عملي لما رسم وخطط له. واختلفت الاراء حول التفاصيل لكن الواقع هو كذلك. ومن اقتنع به وكرره في مقالاته أو دراساته أو تحليلاته هو ما يريده الاحتلال فينتهي في خدمته ويصب في مشروعه السياسي. وينبغي أن يكون معلوماً أنه ليس كل ما حدث أو حصل هو من تصميم وإخراج المخرج الصهيو ــ أميركي، رغم نجاحه في محاولات صناعة فئات وافراد مؤثرين يتبعونه ويتذللون له، ولكن ليس كل من جاء به عنده هذه الامكانية، أو أنه طرف في ما حصل... لا سيما في اوضاع العراق ومحيطه والمؤثرات المباشرة عليه. قاومت هذا الاحتلال طبقات وفئات اجتماعية فرضت عليه الانسحاب العسكري وظل مطلوباً منها ولحد الان انهاء نفوذه السياسي وغيره وخصوصاً افشاله في صناعة مريدين وأتباع له. وهذا جزء من الواقع الذي ينبغي على اليسارويين الانتباه له وتفهمه. حين يكتب اليسارويون العرب عن العراق ويريدون توصيف نتائج ما حصل فيه يسقطون في أحابيل الفكر الاستعماري ويكرسون مقولاته ومفاهيمه التي بذل جهوده وآلاته الحربية والبشرية لتكريسها وترسيخها في العقول والقلوب.
وحين يشيرون إلى الامبريالية الأميركية، ربما بالخطأ أو عن سهو، يساوونها بمصطلحاتهم التي يرطنون بها ويشبهونها بالدولة الروسية مثلاً أو يقارنونها بإيران وغيرها وكأنها على خط مستقيم أو أوان مستطرقة، إذا عرفوها، تهرباً أو تقصداً لتشويه الوعي وخلط الاوراق. وهكذا يختصرون التاريخ والعمل السياسي وكفاح الشعب وطبقاته وفئاته الاجتماعية بتفسير او تبرير كهذا. وحين يتحدثون عن الديمقراطية ويكيّفونها بحسب رغباتهم يتناسون او يقفزون على ظروف كل بلد وخصوصية كل شعب، ويشبهونها في عروضهم لغيرها أو يقارنونها بما يشوهها ويحيلها على سلب كامل ويزيدونها بالتهكم وحتى بسخرية تعكس ما في البطون لديهم قبل العقول. هذا في الواقع معكوس وعيهم أو بحسب الاشارة المطلوبة منهم. وكأنهم يرغبون او يصورون ما يريدون من دون وعي يساروي حتى.
لا يمكن فهم أن الطائفية السياسية التي فتحت ابوابها ادارات الاحتلال الغربي هي مفتاح تحليل اليسارويين العرب في الشؤون العراقية والعربية. ولا يصح قبول أن الكتابة عن العراق تتطلب منهم ان يركزوا عليها كقضية اساسية من دون معرفة وقائع ومتغيرات الساحة السياسية في العراق. لقد سجل كثيرون منهم نقدهم لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي مثلا وتهمته أنه عزل السنة أو همشهم أو أبعد رموزهم أو... أو... هكذا على العموم وبالمطلق، ويدعون بعدها انهم نظروا للأمر من ايديولوجيتهم اليساروية، فكيف يمكن تفسير ذلك؟ أحدهم كتب ايضاً أن السنة حكموا العراق قرونا الى أن جاء الاحتلال (هكذا!)، وأخرجهم من السلطة وسلمها للشيعة الذين همشوا السنة. هل هذا تحليل يساري؟!
الوضع في العراق وخارجه بحاجة الى عقول وأقلام يسارية حقيقية تحلله وتقدم قراءات سياسية وطبقية لمظاهر الصراعات والمتغيرات في العراق. فالمعلوم أن قوى الرجعية العربية والامبريالية تبذل جهودها وتسعى الى تكريس النزعات الطائفية والاثنية والتقسيم على ضوئها للمجتمع والقوى الوطنية. والوقوع في هذا النهج سقطة سياسية واخلاقية أيضاً. لا يمكن الاقتناع بعفويتها أو ببساطتها. والانتباه والدقة في معرفة انتساب منظمات ارهابية دموية تدربها الاستخبارات الصهيو غربية وباموال عربية أو دعم معلن من بعض الحكومات العربية والإسلامية وما يجب على اليسارويين رفضه وإدانته وفضح ممارساتها لا إعادة صياغته وترديد اتهامات مسبقة ومقررة سلفاً وغير منطقية أو موضوعية وتمريرها بين السطور.
كيف يكون المرء علمانياً يساروياً ويتعاون ويتحالف او يتعاطف مع قوى رجعية وإرهابية حتى بتصنيفه هو ذاته؟ كيف يمكن ان يقنع نفسه اولا بذلك؟ أم أن لوثة ما دفعته على تزييف نفسه وتضليلها، وأصبح كما كتب ياسين الحافظ عن امثال هؤلاء، في نقده لـ«اليسار اليسراوي» بأنهم «حوّلوا ماركس إلى جحا، ومسخوا جياب إلى أبي زيد الهلالي». ففقدوا البوصلة ولم تعد لديهم مناعة «يسارية»، وصاروا يكررون اسلافهم أو يعيدون انتاجهم بشكل سافر ومرضي. فهؤلاء في كتاباتهم يضعون ما يسجلونه كأنه وقائع ومسلمات للقارئ من دون اي تمحيص وتساؤل طبيعي عن صحة ما يرددون. فهل صحيح مثلاً أن «أزمة العراق الذي يحتدم فيه الصراع الآن بين حكومة المالكي الشيعية المدعومة من إيران والمعارضة السنية المسلحة التي يمثلها التنظيم المتطرف داعش، والمعروف أن هذا الصراع المسلح ليس سوى مظهر من مظاهر الفشل السياسي في تحقيق التعايش والتوافق الوطني بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية الموزعة بين تيارات ومذاهب وطوائف وقبائل وعشائر ويرتبط كل منها بقوى مختلفة دولياً (أميركا في المقدمة وتليها روسيا) وإقليمياً (إيران في الجانب الشيعي والسعودية في الجانب السني) وقد أعلنت السعودية صراحة ألا حل سياسياً للصراع في العراق في حال استمرار حكومة المالكي التي تنتهج سياسة اقصائية ضد السنة». (هكذا!!) هذا النص الذي يتكرر في كثير من مقالات وخطب اليسارويين العرب، والذي تقول به محطات فضائية معروفة الغايات والتوجهات وتضيف له معلومات مطلوبة مثل: «وتتهم المعارضة العراقية المالكي بالإصرار على انتهاج سياسات طائفية تكرس هيمنة الشيعة على كل السلطات في البلاد واضطهاد السنة العرب. وكان المالكي قد فض اعتصامات للسنة المعترضين على سياساته في محافظة الانبار بشكل عنيف نهاية العام الماضي كما حاول اعتقال نائب الرئيس السابق الذي ينتمي للسنة طارق الهاشمي واتهمه بدعم «الارهاب». وبعد كيف نقنع القارئ أو السامع أو المشاهد بأن السياسات الاستعمارية والعلاقات الاقتصادية وشركات النفط والدول الرأسمالية الامبريالية والعدو الصهيوني والقواعد العسكرية الاستراتيجية وخطط الأجهزة الاخرى وأدوار الفساد والعنف والتواطؤ ومصادرها، التي تكون هي صاحبة المصلحة الاساسية أو هي وراء ما يجري في العراق والمنطقة العربية وان الدول تعمل لما يخدم مصالحها وقواعدها وخططها واستراتيجياتها العالمية وان ادواتها في المنطقة للتنفيذ فقط وآخر ما تضع نصب اعينها مصالح شعوبها وبلدانها. وإن كثيراً من هذه الاقوال أو السرديات بحاجة الى تدقيق وتمحيص وتحليل لأسبابها وخلفياتها ومقارنتها بوقائع وحقائق الحدث وما هو على الارض فعلاً، وما صدر عن تلك الجهات او الاسماء نفسها من مواقف وقضايا تضعها موضع المسؤولية عنها وتدينها في أكثر الأحيان. فلماذا وقع الكتاب اليسارويون في هذا المطب وأضافوا لمحنة العراق الحالية زيتاً للنار التي تحرقه ولا تعينه على النهوض والتقدم؟!
فرزت الأحداث الجارية اليوم في العراق خصوصاً كثيراً من هذه النماذج اليساروية. وبيّنت التكالب والتراهن بين أغلب دعاة الافكار اليساروية وبين مؤسسات تخدم المخططات والمشاريع الصهيوــ غربية التي تفرخ في عالمنا العربي اميبيا لهذه الأهداف والغايات والتوجهات.
المصدر: الأخبار