موت السيّد: التغذية القسريّة لن تقمع الأسرى
يلاعب الأسرى الإداريون الفلسطينيون موتهم إذ يشارفون على الشهر الثالث من الإضراب عن الطعام. 125 أسيراً يطالبون بالتحرر الفوريّ من السجن وإنهاء الاعتقال الإداريّ. ليس المطلب عادياً، بل هو غير مسبوق. تاريخياً، خاضت الحركة الأسيرة الفلسطينية 25 إضراباً عن الطعام، أغلبيتها الساحقة إضرابات مطلبيّة لتحسين ظروف السجن، وجزء منها في سنوات التسعينيّات للضغط على العمليّة السلمية لشمْل قضيّتهم في التسوية. لكن هذا الاضراب يأتي تاجاً لسلسلةٍ من الإضرابات الفرديّة التي حملت مطلباً واحداً: التحرر من السجن.
يدمج الإضراب عنصرين أساسيين، الأوّل مُشتق من الإضرابات الفرديّة التي شهدتها السنوات الأخيرة، مطلب التحرر، وهو مطلب قطعيّ. والثاني جماعيّة الاضراب وتنظيمه، وهو مشتق من تقاليد الحركة الأسيرة في السجون. من دون الدخول في صواب هذا الدمج، إلا أنه يحتوي على معانٍ كثيرة تختبئ تحت الخطاب القانونيّ والحقوقي الواضح.
كيف سنستدلّ على معاني هذا النضال؟ عبر التمعّن في الأشكال التي تتخذها الصهيونيّة لقمعه أي قرار بسنّ قانون «التغذية القسريّة»: أن يُطعموا الأسرى رغماً عنهم.
انقلاب السحر على الساحر
ليس هذا أول استخدام للتغذية القسريّة ضد المعتقلين الفلسطينيين. في إضراب سجن نفحة في تموز/ يوليو 1980، حاولت إدارة السجون إطعام الأسرى قسراً عن طريق أنابيب بلاستيكيّة تدفع بالمواد الغذائيّة إلى المعدة عبر فتحة الأنف. كانت تلك تجربة عينيّة ومحددة. الأسرى الذين تعرضوا للتغذية القسريّة نُقلوا جميعهم بحالة صحيّة متدهورة إلى مستشفى سجن الرملة. إضافةً للتغذية القسريّة، تعرّض الأسرى للتنكيل الوحشيّ. في هذه الظروف استشهد الأسير راسم حلاوة والأسير علي الجعفري.لم تنجح تجربة التغذية القسريّة قبل 34 عاماً. العكس هو الصحيح: حوّلت الإضراب إلى نقطة تحوّل مركزيّة في مسيرة الحركة الأسيرة. كانت الحكومة الإسرائيليّة قد افتتحت سجن نفحة في العام نفسه بهدف عزل قيادات الحركة الأسيرة عن باقي السجون.
بعد بدء التغذية القسريّة، التحقت كل السجون، من دون استثناء، بالإضراب مكرّسةً بذلك التفافها حول تلك القيادة. كذلك، مهّد إضراب نفحة هذا، بحدّته وعنفوانه وصلابته، الطريق إلى إضراب 1984 في سجن الجنيد، وهو الإضراب الذي خضعت فيه الحكومة الإسرائيليّة لمطالب الأسرى كاملةً، كما أقالت مدير مصلحة السجون آنذاك، واستبدلته بآخر أكثر «اعتدالاً».
تعذيب ديموقراطي!
تنتظر إسرائيل اليوم قانوناً يشرّع استخدام التغذية القسريّة. سلطة السجون لن تتحمّل وحدها عبء المسؤوليّة في حال تحوّلت التغذية القسريّة إلى جحيم يحسم الإضراب لمصلحة الأسرى. في العام 1984 وقّعت إسرائيل على الوثيقة العالميّة لمناهضة التعذيب، وصادق البرلمان الإسرائيليّ على التوقيع في العام 1991. اليوم، عدد كبير من المؤسسات الحقوقيّة تتابع عمل جهاز المخابرات ومصلحة السجون، وتحقق فيه وتراقبه وتوثّق وتعمل على قضايا التعذيب. سلطة السجون والمخابرات لا زالوا على قمعهم المعتاد، لكنّهم أكثر حذراً في استخدام أدوات القمع، وأكثر دراسة لها. هذا أولاً. ثم لماذا تتحمّل المخابرات الإسرائيليّة وحدها مسؤوليّة التغذية القسريّة، إن كان لديها أغلبيّة برلمانيّة فاشيّة «تبصم بالعشرة» لكل ما تقوله، ويمكنها أن تسنّ القوانين بحسب الطلب وبسرعة البرق، ويتحمّل الجمهور كله، عبر مندوبيه، مسؤولية التعذيب؟
لم يأت مشروع قانون التغذية القسريّة للبرلمان الإسرائيلي بسبب الإضراب الحالي. طُرح مشروع القانون في نهاية العام 2013، وفي شباط/فبراير من العام الجاري، أعطى المستشار القضائي للحكومة الإسرائيليّة الضوء الأخضر للمباشرة بالتشريع. القانون أتى على أثر سلسلة من الإضرابات الفرديّة التي خاضها الأسرى الإداريّون وتحرروا بفضلها.
عشبةٌ في ركام الحركة الأسيرة
في كلّ مرّة قررت فيها إسرائيل ضرب التنظيم السياسي وتحطيمه ونجحت، تعرقلت بالعشب الذي ينبت بين الركام. كلما حطّمت إسرائيل تنظيماً نضالياً مركزياً، تورّطت بتشكل طبيعي لبديل نضالي لا مركزي، خارج عن التقاليد النضاليّة، غير منظم، أو خارج عن المألوف تنظيمياً. ميزة هذه العُشبة التي تُعرقل إسرائيل في كلّ مرة، أنها ترفس إطار اللعبة وقوانينها التي التزم بها التنظيم النضالي الذي حطّمته إسرائيل. حين ضُربت الحركة الأسيرة (وإسرائيل ضلع واحد في تركيبة معقّدة من العوامل التي أدت لذلك)، وظهر عليها ملامح الاحتضار التنظيمي، ظهر الإضراب الفرديّ.لماذا اضطر النظام الصهيونيّ إلى التفكير باستخدام التغذية القسريّة، وبشكلٍ منهجيّ مقنن، الآن بالذات؟ لأن استخدام الاضراب عن الطعام اختلف: لم يعد أداة للضغط على إدارة السجن ضمن منظومة القواعد القائمة، بل صار ثغرة يخرج منها السجين إلى الحريّة ويكسر دائرة السجن المغلقة. يستطيع النظام أن يقبل الإضراب عن الطعام، وتحاول إدارة السجن كسره ضمن الأدوات الموجودة. ولذلك، لطالما ظلّ الوهم قائماً بأن المعركة هي معركة بين السجين والسجّان ـ معركة على إدخال الراديو إلى السجن أو وقف التفتيش العاري أو ادخال الكتب إلى السجن. أما عندما يتجاوز الأسرى دائرتهم المغلقة، ويتعرّضوا للقواعد الأساسيّة، للشروط المسبقة، للمنزلات التي تتأسس عليها دائرة السجن ـ سياسة الاعتقال الإداري، مثلاً ـ يفقد النظام الصهيوني صوابه.
المجتمع الصهيوني.. ورهاب الأماكن المغلقة
مرّة أخرى، تجد إسرائيل نفسها تحفر وتنبش في قوانينها لتتمكّن من إبقاء منظومتها القمعيّة كما هي. تواصل انكفاءها على نفسها: تبحث في نفسها عن شرعيّة لنفسها، في حين تفقد شرعيّتها أمام الإنسانيّة. تتحصّن بقوانينها لتدافع عن نفسها بوجه القانون الإنساني الدولي، وبوجه أبسط القواعد الأخلاقيّة. هذا الانكفاء الإسرائيلي إلى الداخل، الناتج عن العصبيّة الاستعماريّة، يتأجج فيُجبر شرائح أوسع من المجتمع الصهيوني أن تعود إلى دورها الأوّلي، الحقيقي والأصلي، في الوضع السياسي: دور الطاغية.الانكفاء السياسي يقلّص المساحة التي يشغلها المجتمع.
هذه المساحة تتيح للأفراد حركتهم. كلما زاد الانكفاء السياسي، صارت المساحة أضيق، وصار عسيراً على الصهيوني أن يبتعد و«يتحرر» من دوره الأصلي. والعكس صحيح، كلما انفتح النظام السياسي الاستعماري، زادت المساحة، وصار للأفراد فيه مجال متاح بأن يتركوا مواقعهم العسكريّة ويتجوّلوا في رحاب مدنيّتهم وإنسانيّتهم.الإضراب عن الطعام، حين يسعى لنسف السجن عبر التحرر منه، يجبر إسرائيل على الانكفاء على نفسها عبر النبش في قوانينها. بالتالي، نشهد واحدة من أبشع عمليات التعذيب الممكنة على الإطلاق، فيها يُنتهك جسد الإنسان من الداخل، وتُستخدم القوّة لضرب الأعضاء الداخليّة للجسم. ولكننا لا نشهد عملية التعذيب هذه كما شهدناها في العام 1980. هذه المرّة، لن نكون أمام عصابة من رجال المخابرات والسجّانين والأطباء العسكريين الذين يدفعون بأنبوب بلاستيكي داخل أنف الأسير، لكننا سنكون أمام برلمان بربطات عنق يشرّع دفع الأنبوب البلاستيكي، أطباء مدنيّين يشاركون في التعذيب، قضاة محكمة يصادقون، وصحافة متنوّرة تُغطي بتعددية ورديّة وموضوعيّة، أبشع وأحقر وأصعب عمليات التعذيب الممكنة. هذه هي الحقيقة الإسرائيلية، الحقيقة التي كانت دائماً وستبقى. وهي الحقيقة التي يناضل المُضطهَد من أجل محاصرة مساحة تَجَسُّدِها، حتى تُظهر وجهها الحقيقي.
تمشي الحكومة الإسرائيلية نحو خسارتها في قضيّة التغذية القسريّة. حتى لو كسرت الإضراب، حتّى لو استشهد عدد من الأسرى. نذكر الإضرابات السابقة عن الطعام: آلاف الأسرى يضربون عن الطعام لعشرين وثلاثين يوماً من دون أن تنبس الصحافة الإسرائيليّة بحرفٍ عنهم.
حين وصل اقتراح قانون التغذية القسريّة إلى البرلمان، لم يعد أي صحافي يستطيع أن يغض النظر عن الإضراب.ليس ذلك فقط. الصحافة الإسرائيليّة ضغطت على نقابة الأطبّاء مطالبةً بموقفها، الأخيرة دعت الأطباء لرفض الالتزام بالقانون بأي شكلٍ من الأشكال. على لسان النقابة جاء أن «الأطباء الذين سيطبقون هذا القانون سيُلفظون من الدوائر الطبية العالميّة، وسيكون من الصعب الدفاع عنهم أمام القضاء الدولي. الأخلاقيّات الطبيّة فوق القانون». هذه بالطبع ليست إنسانيّة زائدة لنقابة الأطباء الإسرائيليّة ولا يساريّة مفرطة، ولكن نقابة الأطباء تعرف كذلك أن القانون يلغيها ويتناقض مع القواعد الأساسيّة التي تقوم عليها.
«حتى يموت الموت»
رُبما سيُهمله التاريخ، لكن هذا الخبر الصحافي البسيط الذي نشرته صحيفة هآرتس حول إعلان نقابة الأطباء أنها لن تخضع للقانون، هو الفاصلة السياسيّة التي تعكس شلل النظام، وعدم قدرته على تطبيق قراراته. سيجد لذلك حلولاً، لكنها حلول مؤقتة، ستزيد تعقيد حالته، وتزيد تناقضاته، وستنفجر بوجهه مرةً أخرى في المعركة المقبلة.نكذب إن قلنا إن الاضراب الحالي عن الطعام بدأ ويسير بمثاليّة، الصفّ الفلسطيني متخبّط، التضامن ضعيف، والمزج بين عناصر الإضراب الفردي والإضراب الجماعي تشكّل عوائق ومخاطر بإمكانها النيل من الإضراب.
ربما يُطرح التساؤل: هل كان على الأسرى الإداريين أن يستنزفوا إسرائيل بمعركة بطيئة، واحداً بعد الآخر، بدلاً من توحيد الإضراب... وربما يحمل الإضراب الفرديّ عوامل نجاح أقوى مثل التضامن مع هويّة المُضرب في زمنٍ تتغلّب فيه صورة البطل وحبكته الدراميّة على كل مطلب سياسيّ منصوص.
لكن الأكيد أن ميزة الإضراب هي في أنه يخرج من قوانين اللعبة إلى استئناف الأسئلة الجوهريّة حول شرعيّة السجن الإداري أصلاً. وأن هذا النمط من الأسئلة نجده خارج السجن، يسأل وجود الاستعمار وليس عن مستوطناته في الضفة الغربيّة. وهو النضال الذي يستطيع أن يهدم النظام القائم، لأن التقدّم نحو الموت بهامة مرفوعة يعرقل الموت وينقض سطوته. والعبد إن مات، فقد السيّد سيادته فانتهى.
المصدر: السفير