سورية... معركة الجدار الأخير
لعل ما يشغلنا جميعاً هذه الأيام الاقتراب الدامي لما يسمى «الإسلام السياسي» من السلطة، وتسارع هذا الاقتراب بشكل لم يكن متوقعاً حتى لأولئك الذين يقاتلون اليوم للوصول إليها، أو للتشبث بوهم السلطة الواهية، التي جلسوا عليها قليلاً، وخلعوا من أجلها كل شعاراتهم.
وفي جولتهم الأولى ما زالوا يحاربون من أجل التمكين لمشاريع إسلامية تتداعى في كل البلدان التي بدا أن «الربيع العربي» سيأتي محملاً بها ومكرساً لحكمها. لكن الذي يشغل الجميع أكثر، هو ذلك الصدام القاسي والصراع المرير الذي يكتنف ساحات «الربيع العربي» بين الفكر القومي العربي و«الإسلام السياسي» ومفرزاته المصنعة الراهنة في معركة كسر عظم مريرة رهيبة، لن يستبقى للخاسر شيء، على طريقة صولد البوكر - مبدأ كل شيء أو لاشيء -.
في ظل الخواء السياسي والثقافي والاجتماعي الذي عاشته المنطقة العربية في العقدين المنصرمين، وتأزم المشروع القومي، وإخفاقه في مواكبة شعاراته المتوارثة الكبيرة، طوال فترة تسلمه السلطة السياسية في أكثر من قطر عربي، فقد حصل الاضمحلال التدريجي لكثير من هذه الشعارات وتكلست مع ترهل الأحزاب القومية، وهي في السلطة. وأصبحت تتخبط مع الواقع المرير الذي تاهت فيه الشعوب العربية بما فيها نخبها السياسية، وباتت تبحث عن أي فكرة أو إيديولوجيا تغطي فترة الخواء تلك. خصوصاً بعد أن خضع القوميون العرب لاختبارات الحديد والنار في حروب الخليج الأولى.
والثانية في ثمانينيات القرن الماضي وبداية تسعينياته، وما تبعه من سقوط السند الاستراتيجي والإيديولوجي لهذا الفكر القومي مع تفكك الاتحاد السوفياتي وهيمنة سياسة القطب الأميركي الأوحد في العالم، حيث سقط القوميون «السلطويون» في الاختبار الكبير عندما فضلوا الغيبوبة عن الصحوة والبحث في إيجاد بدائل نظرية وعملية لتجديد البنية العقائدية والنظرية والتنظيمية لهذا الفكر المترسخ. فكان أن تردد القوميون في إيجاد صياغة بنيوية جديدة لكامل الإيديولوجية الفكرية وتأجلت المؤتمرات القومية والقطرية في العراق أو في سوريا، ولم تحدث أي مراجعة حقيقية للبنى الفكرية ومنطلقاتها النظرية على ضوء الواقع النضالي للحركة القومية العربية.
كنا - نحن القوميين - نُصرُّ على أن نركب القطار البخاري المعتاد نفسه في زمن القطارات فائقة السرعة، ونستمتع بزمن المنشورات الورقية السرية والفاكس، في زمن الرسائل المحوسبة القصيرة وزمن التخاطب الالكتروني الفضائي، حتى سبقَنا الزمنُ وأصبحنا خارج العصر الحديث. لكن ما أعاض هذا التقهقر في السلوك الحزبي والتبلد في الأسلوب المتبع، أن المشروع القومي في سوريا بالذات كان متجذراً بقوة وصلابة، في نفوس شرائح من بسطاء الشعب السوري، بعيداً من قوافل الانتهازيين والوصوليين الذين استخدموا الأحزاب القومية كقاطرة تقربهم من السلطة، ثم ما لبثوا أن شكلوا طبقة سميكة مغلقة كتيمة ضد النقد والاختراق، ما أدى بأغلب المخلصين من المناضلين الحقيقيين إلى هجرها والتشكيك بالمسيرة المتراخية التي يتعبها الفكر القومي، فالسوريون البسطاء بطبعهم عاشوا العروبة المنفتحة وعشقوها وتجذرت في وجدانهم، فملأت أفئدتهم برضا الأمة الواحدة التي ستنتصر حتماً بعقيدة لا تلين، فرضها الحاضر والماضي والمستقبل وثبتها الدين الوسطي الصحيح، وشكلت جزءاً وجدانياً أساسياً من ضميرهم وعيشهم المشترك بعيداً من التنظير أو التحزب.
وهذا ما تجلى في كل وقفات الشعب العربي السوري، التي لا تنسى وتكتب في أسفار الخلود بأحرف الشهامة والنخوة والرجولة في كل مرة تعرضت فيها الأمة العربية، لمحنة أو هزة عظيمة، كما في السطو المسلح الأميركي على العراق أو في العدوان الصهيوني على غزة أو في الاعتداءات المتكررة على لبنان.
ومع ظهور حركات المقاومة الإسلامية شكّل الفكر القومي العربي الحاضنة الاجتماعية والفكرية للمقاومة، على أساس توحد الهدف الأسمى في الدفاع عن الأمة، وتحرير الأراضي العربية المحتلة ومعادة الكيان الصهيوني في فلسطين ومقاومة وممانعة مشاريعه التوسعية في المنطقة.
تقارب المشروعان القومي والإسلامي على مبدأ المقاومة، من دون أن يكون ذلك مؤصلاً على أسس فكرية متينة، ولكنه تقارب مرحلي فرضه تحدي الظروف القائمة. وكون المشروعان مستهدفين على حد سواء، لم يمض وقت طويل حتى بدت فيه انتهازية بعض الحركات الإسلامية المنضوية في التحالف الإسلامي القومي، وظهر أنها ركبت المشروع القومي وبالخصوص ذلك المشروع المستوحش والمستوحَد والمستفرد في دمشق. فدمشق التي كانت على الدوام بوابة العروبة وقلبُها النابض في جسد العروبة الذي تحنط مع هزيمة عبد الناصر في حزيران وخروج صدام حسين من الكويت، والفشل التاريخي الذي لا يغتفر في عدم تحقق الوحدة في دولتين حكمَهُما الحزب القومي نفسُه، «حزب البعث العربي الاشتراكي»، وبقيةِ التجارب المؤلمة التي مرت بها الحركات القومية على امتداد الساحة العربية.
عانى السوريون في تلك المرحلة وكانوا كمن يصرخ في برية فلا يسمعون إلا صدى المقابر، وبات الحديث عن وحدة البلاد العربية أمراً يشبه الكوميديا السوداء لا تسمع فصولها إلاّ في موطنها السوري الأصيل، وكان يكفي السوري أن يخرج خارج بلاده ليعيش الهوة الكبيرة بين ما يحمل من مبادئ وأفكار سامية، وبين واقع الأمة المرير من التجزئة والتفرقة واستحكام الفكر الإقليمي والقطري الضيق على مبدأ (نحن أولاً وبلدنا أولاً). فعاش السوري أجنبياً أو مغترباً في البلاد العربية، وشعر الفروق الشاسعة بين ما عاش عليه من تربية وعقيدة أن بلاد العُرب أوطاني، وبين ما وفرته تلك البلدان للسوريين من أنهم - أجانب - في الأرض العربية لكنهم متميزون بحرفهم وأعمالهم واختصاصاتهم.
اليوم، سوريا بحاجة لتجديد خطابها القومي والوطني وإعادة صوغه، بشكل توافقي مقنع يأخذ في الحسبان زمن الفضاءات المفتوحة وأن زمن القوميات قد تجاوزنا من دون أن نقتنصه، وتغيير العقلية التي تصدر هذا الخطاب والاعتماد على كوادر شابة واعية تواكب المتغيرات، وإعادة بناء جذرية لهياكل الأحزاب القومية.
كما تحتاج لتغيير أساسي وجوهري في شعاراتها، وفق دراسة موضوعية للواقع الوطني والقومي واستشراف مستقبل المنطقة والتأسيس والبناء عليه، وعدم الاتكاء الوحيد والمنفرد على نظرية «المقاومة»، فمجرد المقاومة لا يشكل أساساً إيديولوجياً مقنعاً متيناً لاستمرارية فكر قومي صالح للأجيال المقبلة خصوصاً في جو مشحون بالتشكيك المستمر.
اليوم، في سوريا يخوض الشعب معركة المشروع القومي الأخيرة وظهره للحائط، بعد أن سرق الجميع شعاراته وتاجروا ويتاجرون بها. معركة أخيرة يخوضها القوميون في وجه تيار «إسلاموي» متعصب، بدوي النشأة، إقصائي الطابع، لا يصلح كبديل حضاري في سوريا العريقة المتجددة، وتشير كل الدلائل الحاضرة إلى تداعي تيار «الإسلام السياسي» الإخواني بسرعة بعد أن فصلت سورية رقبته وتوقف قلبه في مصر، ولم يتبق إلا أن يفقد رأسه المحرك في تركيا وتتخبط أذرعه في بقية البلدان الأخرى قبل إعلان احتضاره تماماً.
ويبقى قدر هذه الأمة أن تنبعث من جديد كطائر الفينيق السوري، بفكر وسطي جامع، يحترم الآخر، ويحمل رسالة حضارية إنسانية، في خدمة البشرية جمعاء، بعيدة من الشوفينية.
تحقق أهداف الشعب السوري بمختلف أطيافه، في المواطنة الحقّة والحرية والعدالة الاجتماعية والعيش المشترك من دون استبداد أو قهر أو تمييز. ترمي خلالها كل فسادها واستبدادها الأمني، وتظل على نهج واضح ممتد، معادٍ لكل أشكال الاستبداد العالمي وسيطرة الاستعمار الحديث وتغول الرأسمالية الغربية.
المصدر: الأخبار