عملية الخليل: الشكل والمضمون
يوم آخر، حتى كتابة هذه السطور، انقضى على اختفاء المستوطنين الثلاثة في مدينة الخليل المحتلة دون أن تتمكن الأجهزة "الإسرائيلية" من الإمساك بطرف من خيط يساعد على معرفة الجهة الخاطفة أو الجهة التي توجهوا إليها، وإن كانت التصريحات تكشف عن عجز كامل وتخبط غير مسيطر عليه ألجأ إلى ما لا تتقن تلك الأجهزة غيره: العنف ومزيد من العنف .
وقبل الدخول في تفاصيل العملية، سواء من حيث الأسباب والدوافع، أو من حيث الدلالات والأهداف، لا بد من القول إن العملية حتى الآن، لم تتأكد إن كانت فعلاً عملية اختطاف أم لا . وحتى الأجهزة الأمنية لم تقطع القول في ذلك، وهناك احتمالات عدة، مثل هرب الطلاب الثلاثة من مدرستهم الدينية، أو أن تكون العملية "مدبرة" من جهات "إسرائيلية" لصرف النظر عن إضراب المعتقلين الفلسطينيين إدارياً منذ أكثر من خمسين يوماً، أو لتوظيفها سياسياً ضد المصالحة، وحكومة الحمدالله وسلطة عباس .
أما إذا ثبت أن ما جرى هو "عملية اختطاف" نفذها فلسطينيون، مستقلون أو من أي تنظيم كانوا، فإن الهستيريا التي اجتاحت المستويين الأمني والسياسي في الكيان الصهيوني تجاوزت كل توقع وذلك لعدة أسباب، أهمها أنها مرت "من تحت الرادار"، كما عبر عنها محلل عسكري لصحيفة "إسرائيلية"، ما كشف عجز الأجهزة الأمنية "الإسرائيلية" وكذب ما تدعيه من إحاطة بكل صغيرة وكبيرة في الضفة الغربية . لقد دفع ذلك وزير الحرب "الإسرائيلي" إلى الدفاع عن تلك الأجهزة مدعياً أنه تم كشف وإفشال (30) عملية مشابهة في العام الماضي و(14) عملية منذ بداية العام الحالي .
لقد اتهم نتنياهو حركة (حماس) بالوقوف وراء العملية، لكنه حمل رئيس السلطة محمود عباس المسؤولية . مع ذلك، لم تتأخر أجهزة أمن السلطة من تقديم كل عون ممكن للبحث والعثور على المخطوفين، وقد أبلغ عباس القنصل الأمريكي، مايكل راتني، عندما استقبله في "المقاطعة" أنه "أصدر تعليماته لأجهزة الأمن الوطني بذل كل جهد والتعاون مع الأجهزة "الإسرائيلية" في البحث عن المستوطنين الثلاثة والمساعدة في العثور عليهم"!
وقد كتب المحلل العسكري أليكس فيكشمان في صحيفة (يديعوت أحرونوت 15/6/2014) مؤكداً ذلك، فقال: "إن السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، تبذلان كل ما بوسعهما، وكل ما تسمح "إسرائيل" لهما بفعله، من أجل تقليص الضرر الذي لحق بهما" جراء العملية! وأضاف: "وأداء الأجهزة الأمنية الفلسطينية مقابل نظيرتها "الإسرائيلية"، يدل على أنها ستكون مسرورة أن تنهي القضية بنفسها وتعتقل الخاطفين حتى لو كانوا ينتمون لحركة حماس"! في الوقت نفسه، أصدر محمد المدني، عضو اللجنة المركزية لحركة (فتح)، ورئيس ما يسمى "اللجنة الفلسطينية للتواصل مع المجتمع "الإسرائيلي""، بياناً جاء فيه: إن "الأجهزة الأمنية في الضفة لن تدخر أي جهد فيما لو كان لمثل هذا الجهد أن يساعد في العثور على الجنود الثلاثة وإعادتهم إلى أسرهم سالمين" .
لكن الهستيريا التي اجتاحت جيش الاحتلال والأجهزة الأمنية "الإسرائيلية"، لم تقف عند حدود الضفة وما كان فيها من حملات مداهمة شملت بيوت الخليل بيتاً بيتاً، أو عمليات اعتقال لم توفر تنظيماً، وكانت حصة (حماس) وحدها أكثر من (100) قيادي وكادر بينهم نواب ومعهم رئيس المجلس التشريعي عزيز الدويك، بل امتدت لتأخذ شكل غارات متتالية على قطاع غزة، ومواقع عسكرية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي أوقعت شهداء وجرحى .
وإذا كان كل ما سبق حديث يتعلق بالشكل والتداعيات التي حملتها العملية، فإن حديث المضمون يتجاوز ذلك، وهو يشير في الأسباب والدوافع إلى: فشل المفاوضات، والإجراءات "الإسرائيلية" التي لم تتوقف قبل وأثناء وبعد المفاوضات، مثل مصادرة الأرض وتوسيع المستوطنات القائمة والمصادقة على إقامة مستوطنات جديدة، ومواصلة تدنيس الأقصى والتمهيد للاستيلاء عليه، والتنكيل بالفلسطينيين وتهجيرهم وتدمير منازلهم، ثم تجاهل المعتقلين الإداريين وإضرابهم . وقد وجه الكاتب "الإسرائيلي" جدعون ليفي الاتهام ووضع المسؤولية عن العملية على حكومة نتنياهو بسبب مواقفها المتعنتة تجاه الفلسطينيين عموماً، وتجاه الأسرى خصوصاً، فكتب في (هآرتس-16/6/2014) يقول: "من يرفض بعناد إطلاق سراح الأسرى الموجودين في السجون منذ عشرات السنين، ومن يقوم باعتقال الفلسطينيين إدارياً لسنوات طويلة دون محاكمة، ومن يتجاهل الإضراب عن الطعام الذي يخوضه الأسرى الإداريون ويعتزم إطعامهم بالقوة، ويسعى إلى سن قوانين جارفة ضد إطلاق سراحهم، عليه ألا يتظاهر بأنه فوجئ بعملية الاختطاف لأنه هو الذي استدعاها بتصرفاته" .
وتبقى بعد ذلك كله الاستخلاصات الأهم، التي يجب على حكومة نتنياهو أن تستخلصها، وعلى الأطراف الفلسطينية المعنية أيضاً أن تقتنع بها، وهي ليست جديدة وما العملية إلا تذكير بها . فعلى الفلسطينيين أن يقتنعوا بأن ديدن هذا العدو ليس غير القوة، ولا يجبره على تقديم أي شيء مهما كان قليلاً ومتواضعاً إلا القوة، خصوصاً بعد أن أثبتت السنون أكثر من مرة فشل أسلوب المفاوضات .
وأما بالنسبة للاحتلال وقادته، فعليهم أن يفهموا أنهم لن يقدروا أن يفرضوا كل ما يريدون بالقوة . ويكفي أن نشير إلى ما قاله الكاتب "الإسرائيلي" شمعون شيفر في صحيفة (هآرتس- 16/6/2014)، حول العملية: "عندما تنتهي الأزمة، سنجد أنفسنا أمام الاعتبار الحقيقي: هل نستخلص الاستخلاصات التاريخية؟ هل سنفهم أخيراً أن خلف الخلية الواحدة يقف ملايين الفلسطينيين الذين لن يتخلوا أبداً عن إرادتهم للعيش بحرية؟"!
المصدر: الخليج