الأوضاع في السودان.. لا للحرب لا للتسوية القصاص العادل للشهداء
السودان بلد مترامي الأطراف متعدد الثقافات واللغات واللهجات، متعدد الأعراق والمعتقدات الدينية ومتعدد ألوان البشرة. يمتلك السودان مناخات وأجواء متعددة أراضي واسعة وخصبة ويمتلك ثروة مائية هائلة من مياه جوفية وامطار وأنهار موسمية ودائمة هذا إلى جانب ساحله الطويل على البحر الأحمر مما يجعله شديد القرب من منفذيه للتجارة العالمية في الشمال، قناة السويس وفي جنوبه، باب المندب.
يمتلك السودان تاريخاً مشعاً في القدم والعراقة قارع خلاله الآشوريين والفرس والرومان والعرب والأتراك حتى تم احتلاله وفق الاتفاقية الثنائية الانجليزية المصرية في عام 1899 فصار السودان تحت الحكم الثنائي المصري – البريطاني. وعرف بعدها بالسودان الإنجليزي – المصري إشارة للتعبير عن حكم ثنائي The Condominium!! نال السودان الاستقلال في الأول من يناير عام 1956 كأول بلد أفريقي.
بدأت في السودان أزمة وطنية منذ بواكير الاستقلال حينما أصرت الشرائح البرجوازية السودانية وشبه الإقطاع -اللذان أسسهما الإنجليز بمنح الأراضي والامتيازات لزعماء العشائر والقبائل والطوائف الدينية وسهل لهم امتيازات التصدير والاستمرار فتشجعوا للسير بالبلاد على طريق التنمية الرأسمالية المشوهة لبلد كانت مجتمعاته تعيش علاقات ما قبل الرأسمالية ومقسم بين عدة ولاءات طائفية أهمها طائفتي الختمية والأنصار إلى جانب بعض الولاءات الأخرى القبلية منها والدينية.
استمرار حكومات ما بعد الاستقلال – مدنية كانت أو عسكرية – المشي على نهج الاكتفاء بالاستقلال السياسي دون استكماله بالتنمية الاقتصادية الاجتماعية تسبب في تعميق الأزمة الوطنية وتمثل ذلك في بقاء البلاد في قاع التخلف الاقتصادي والاجتماعي وحرمان عموم الشعب من التعليم ومن العلاج ومن خدمات الكهرباء والمياه.. إلخ في ظل هذه الأوضاع المزرية وبعد سنتين من إعلان الاستقلال فوجئت البلاد بأول انقلاب عسكري في 17 نوفمبر 1958 بقيادة الفريق إبراهيم عبود القائد العام للقوات المسلحة متعللاً بالأزمة الاقتصادية وبالصراع السياسي الحاد بين الأحزاب السياسية وخاصة التشاكس بين حزبي الاتحاد الديمقراطي والأمة القومي ورغم ذلك نال الانقلاب مباركة زعيمي الطائفتين وبعض الجوار. وقف الشعب السوداني بجسارة يناضل طوال ست سنوات حتى انعقد له لواء النصر بإسقاط نظام عبود في 21 أكتوبر عام 1964 كأول شعب في التاريخ يسقط نظاماً عسكرياً تقوده المؤسسة العسكرية سلمياً بالإضراب السياسي والعصيان المدني!؟
وفي 25 مايو 1969 قاد العقيد جعفر محمد نميري انقلاباً عسكرياً آخر استمر ستة عشر عاماً وأيضاً تم إسقاطه سلمياً بانتفاضة الشعب في أبريل 1985.
ظلت موارد السودان الضخمة من الأراضي الزراعية الخصبة ووفرة المياه والمعادن بمختلف أصنافها من الحديد والنحاس حتى الذهب واليورانيوم والكثير غيرها من الخيرات مطمعاً دولياً من دول الإقليم إلى الدول الرأسمالية الكبرى ولكن صمود وعناد أهل البلاد وإصرارهم على عدم الخضوع ورفض التبعية ظل يشكل العائق أمام هذه الأطماع.
إنَّ تقاعس الحكومات الوطنية المتعاقبة وفشلها في استغلال الإمكانيات البشرية للبلاد وغنى مواردها لإحداث نهضة تنموية؛ أقعد بكثير من مناطق وأقاليم البلاد وحرمتها مما تستحقه من الخدمات مما قاد البلاد إلى شرك النزاعات حول الموارد وبالخصوص في المناطق والأقاليم المهملة والنائية عن مركز الحكومة، فكانت أولها الحرب في جنوب البلاد في عام 1955 واتخذت طابعاً قومياً ونادى بعض قيادات الجنوب بالانفصال كان ذلك في أولها ودامت الحرب حتى توقيع اتفاقية أديس أبابا عام 1972 برعاية مجلس الكنائس العالمي، ثم استؤنفت الحرب في الجنوب للمرة الثالثة بقيادة د. جون قرنق دي مبيور في سبتمبر 1983 بعد إعلان نميري تطبيق “الشريعة الإسلامية” خارقاً اتفاقية 1972 وأصدر قوانين سبتمبر 1983 سيئة السمعة، ارتكب نميري والإخوان المسلمون باسمها الفظائع والأهوال في حق شعب مسلم ومسالم!!
إنَّ تقاعس الحكومات الوطنية المتعاقبة وفشلها في استغلال الإمكانيات البشرية للبلاد وغنى مواردها لإحداث نهضة تنموية؛ أقعد بكثير من مناطق وأقاليم البلاد وحرمتها مما تستحقه من الخدمات مما قاد البلاد إلى شرك النزاعات حول الموارد وبالخصوص في المناطق والأقاليم المهملة والنائية عن مركز الحكومة.
في 30 يونيو 1989 تآمرت الجبهة القومية الإسلامية “الإخوان المسلمون” بزعامة الدكتور حسن عبد الله الترابي واستولت على الحكم بانقلاب عسكري بخيانة النظام الديمقراطي البرلماني المنتخب الذي كانت هي جزءاً منه وحولت الصراع من طابعه القومي ومطالبه الاقتصادية إلى حرب دينية مقدسة نادى فيها الإخوان بالجهاد كما يدعون في سبيل الله ونشر الإسلام وأسلمة المجتمع السوداني وسيق للحرب آلاف الشباب غير المدرب فراحوا ضحايا مطامع الرأسمالية الطفيلية الربوية المتأسلمة وعاش شعبنا ثلاثين عاماً كأسوأ ما يعيشه شعب يناضل في سبيل تحقيق تقدم بلاده.
ذاقت البلاد من الإسلاميين ألواناً ماحقة من نيران القهر والذل والإهانة بزعم تطبيق الشريعة الإسلامية التي فقدت مفهومها ومعناها وقيمها جراء السرقات والنهب التي يرتكبها الداعون إليها.
أمام هذه الأهوال شدد شعبنا من عزمه وظل يشحذ سلاح المقاومة السلمية متحملاً المذابح والتعذيب والسجن والاعتقال والتشريد والحرمان من العمل وتضييق فرص التعليم حتى تكللت جهوده وجسارة نضالاته بأن اندفعت الشابات الكنداكات والشباب الشفاتة الراكبين رأس (هكذا أطلقوا على أنفسهم بمعنى الابضايات العنيدين) امتلأت بهم الشوارع في الريف والحضر في المدن والقرى حتى فاضت شاهرين هتافهم (حرية سلام وعدالة… سلمية… سلمية ضد الحرامية، مدنية… مدنية، الكوز ندوسه دوس، العسكر للثكنات والجنجويد يتحل، … ما في مليشيا بتحكم دولة…الخ) من الهتاف الدواي من شباب لا يحملون أمام الرصاص غير هتافهم وصدورهم العارية إلّا من إيمان عميق بهذا الوطن الرائع مقدمين مئات الشهداء تنوعوا بخصائص وتنوع الشعب السوداني العنيد الـ (راكب راس) حتى تزلزلت الأرض تحت أقدام نظام الجبهة الإسلامية (الانقاذ) وفي 19 ديسمبر 2018 يسقط شعب أعزل إلّا من هتافه وعزمه نظاماً ايديولوجياً مدججاً بحزب فاشيستي ومجموعة كبيرة من الميليشيات المسلحة والتابعة له يقف وراءهم الجيش، فلا يهابهم الشباب الثائر ويهزمهم في ميدان الصمود والجسارة وقوة العزم وفي إيمان بالوطن.
ثورة 19 ديسمبر أحدثت شرخاً كبيراً في آمال وأطماع وخطط المجتمع الرأسمالي الدولي والإقليمي الذي ظل يدبر ويتكتك لتحويل السودان بإمكانياته وثرواته الهائلة إلى دولة تابعة تدور في فلك التقسيم الدولي للعمل تنتج المواد الخام وتبقى سوقاً رائجة للتجارة الدولية.
ثورة الشعب قضت على هذه الآمال. فماذا بقي لهم ليفعلوه وقد قتلوا المئات من الشعب في الشوارع؟؟ فترد عليهم الجماهير باحتلال ساحة القيادة العامة للجيش مؤملة في حمايته فما خاب ظنهم في وفاء الجنود وصغار الضباط فرحبوا بالثوار وقاتلوا لحمايتهم.
حفلت ساحة القيادة العامة بمئات الآلاف من الجماهير ضامة كل ألوان التنوع السوداني من أقصاه إلى أقصاه وصارت القيادة العامة مقراً دائماً لاعتصام الثوار شاهداً على القيم السودانية الأصيلة من أخاء وتعاون ووحدة جاذبة لم تعرف إلّا في ما حاوله أفلاطون والفارابي من تصور لإيجاد مجتمع فاضل في المدينة الفاضلة.
بجعل ساحة القيادة العامة للجيش مقراً ومركزاً للاعتصام تتجمع فيه وترد إليه يومياً أعداد هائلة من الثوار وضعت أعداء الثورة مرة أخرى في مأزق.
جسارة الجماهير وضخامة المواكب وإصرار الثوار حير الأعداء وأسقط خططهم فلم يكن هناك بد أمامهم غير شن حرب شاملة ومدمرة للخلاص من شعب السودان الحر وانهائه من الوجود أو إرغامه على الإذعان لهم فكانت حرب 15 أبريل عام 2023 التي اشتعلت بين ممثلي “الحركة الإسلامية” من كل جنرالات الجيش وبين قيادات الدعم السريع الذين أعدتهم الجبهة القومية الإسلامية لمثل هذا اليوم وسلحتهم لحماية مصالحها غير المشروعة ضد جماهير الشعب السوداني وعلى حساب قوت أطفاله، وأحسنت إعداد قواها وقواتها لمثل هذه الحرب التي بلغت خسائرها وسط المدنيين العزل أكثر من خمسة عشر ألف قتيل حتى الآن ومئات آلاف الجرحى ونزوح أكثر من ثمانية إلى عشرة ملايين نسمة في الداخل وفي الدول المجاورة، مع تدمير كامل للبنية التحتية شملت مصادر مياه الشرب ومحطات توليد الطاقة وقصف أكثر من خمسة آلاف مصنع وخربت المئات من المشاريع الزراعية ومصادر الغذاء.. إلخ.
خربت الحرب كامل العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث و90% منها تحتلها قوات الدعم السريع وتسيطر إلى جانبها على أربع ولايات من خمس في دارفور، وعلى المدن الرئيسية في ولاية كردفان وتسيطر أيضاً على مدن وقرى ولاية الجزيرة ولا زالت تزحف وتناوش أطراف الولاية الشمالية ومناطق في شرق السودان.
انخفض معدل النمو في البلاد إلى 18% وتوقفت خدمات الصحة والعلاج تماماً وتعطلت الدراسة في كل مرافق ومؤسسات التعليم في كل المستويات، آلاف المدارس إما هدمت أو تحولت إلى ثكنات عسكرية وآلاف أخرى تحولت الى مراكز لإيواء النازحين وانعدمت الخدمات تماماً في بعض المناطق وشلت شبكات الاتصالات والانترنت ويستمر النهب والانتهاك والتدمير هو طابع هذه الحرب.
حسب تقارير وكالات الأمم المتحدة أن 18 مليون سوداني معرضون الآن للمجاعة وهم ما يقارب من نصف عدد سكان البلاد. ملايين الأطفال معرضون للتقزم وسوء التغذية ويتهددهم الموت.
كل هذا يجري في بلد مترامي الأطراف في قلب العالم ولا يجد الاهتمام اللائق بتاريخه وإمكانياته ولا تبذل أية جهود حقيقية لتغل أيدي طرفي الحرب ومن يساعدهم بالمال والسلاح وهي دول وجهات معلومة سمتهم دول ومنظمات دولية نافذة.
يسعى الأعداء لقتل المزيد من شعبنا وقد سئم السودانيون من عبارات الشجب والإدانة التي لا تخلو من العيب ولا تسلم من وزر مهادنة الجرم الواقع على شعب أعزل. برغم كل ما تواجهه جماهير الشعب من الأهوال تتحلق بين حناياه المقاومة الشعبية، تنبت رويداً في تؤدة وتعمل ما وسعها معتمدة على تجاربها ممثلة في لجان المقاومة ولجان الطوارئ ومطابخ الإيواء وتوفير الملاجئ للنازحين من ويلات الحرب بادئين من البسيط المتوفر، الجميع يقول “لا للحرب” ويرفض أي تدخل خارجي يأتي على غير إرادة جماهير الشعب وموافقته. يناضل الجميع كل من موقعه مستميتاً لإيقاف الحرب عبر وحدة وتحالف القواعد الشعبية الثورية في كل منطقة وحي لبناء التحالف الأكبر رافضة لأية تسوية وترفض شراكة العسكر في أي شأن سياسي أو اقتصادي وترفع الجماهير عقيرتها تطالب بتقديم مجرمي الحرب والإبادة إلى المحاكمة وعزل وقطع حزب المؤتمر الوطني وعرابه “الحركة الإسلامية” من دابر السودان إلى الأبد حتى يعم السلام الدائم ويستتب الأمن وتتفرغ كل الجهود لبناء الدولة المدنية الديمقراطية السودانية القائمة على المواطنة التي تتأسس عليها الحقوق والواجبات.
-علي سعيد إبراهيم
عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني
معلومات إضافية
- المصدر:
- مجلّة تقدّم