من أفشل مهمة الأخضر الإبراهيمي؟
استقالة المبعوث الدولي والعربي إلى سوريا الأخضر الإبراهيمي تحمل في طياتها ما هو أبعد من مجرد فشل مهمة الوساطة التي قام بها، فهي تؤشر إلى عقدة انسداد أفق التسوية السياسية للأزمة السورية في المدى المنظور، وانتظار اشتداد جولات الصراع الدموي.
لم يفاجئ السيد الأخضر الإبراهيمي أحداً بالإعلان عن استقالته من مهمته، كمبعوث دولي وعربي خاص إلى سوريا، حيث كان السؤال بعد فشل مؤتمر "جنيف 2": متى سيستقيل الدبلوماسي المخضرم؟ إذ باتت فرص نجاحه معدومة في ظل المعادلة الصفرية التي تعاطت من خلالها الأطراف المباشرة في الصراع المسلح، وفشل المجتمع الدولي في بلورة تفاهمات حول كيفية دعم التسوية السياسية للأزمة الدامية، تكون لها أجندة ورزنامة زمنية واضحة ومحددة، تبدأ بوقف العنف واعتماد الخيار الدبلوماسي كمخرج وحيد وممكن لتسوية الصراع.
الإبراهيمي أكد حين تكليفه بالمهمة خلفاً للأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي عنان، أنه سينطلق من النقطة التي انتهى إليها سلفه، في المبادرة التي أصبحت أساساً لبيان مؤتمر "جنيف 1"، الصادر في 30 حزيران/يونيو 2012. وكان يحدوه الأمل في أن ينجح بتحقيق اختراق جدي على الأرض، فشل في تحقيقه صاحب المبادرة كوفي عنان، لكن حسابات الإبراهيمي التي زرعها في حقل مهمته لم تعط غلالاً في البيدر، وذلك لا يعني أنه هو من يتحمل مسؤولية الفشل نتيجة طريقته في أداء مهمته.
فالجميع يتحملون المسؤولية في شكل أو آخر، وعليهم أن يعملوا على استدراك الأخطاء التي وقعت وأدت إلى عقدة "جنيف 2"، بفشل المبعوث الدولي والعربي، الأخضر الإبراهيمي، في خلق أرضية مشتركة بين وفدي النظام والمعارضة، تنطلق من منصتها تسوية سياسية تترجم بيان "جنيف 1"، ولا يرجع ذلك فقط إلى لجوء طرفي الأزمة إلى تحويل طاولة الحوار إلى ميدان للمناورة، إنما أيضاً لعدم وجود فهم دولي موحد لروح بيان "جنيف 1"، فمنذ اليوم التالي لصدوره برز بون شاسع بين التفسيرات الأميركية والأوروبية الغربية ونظيرتها الروسية والصينية، ومازال التناقض في التفسيرات يشكل واحدة من أكبر العقبات التي تعترض إمكانية الولوج إلى تسوية سياسية للأزمة السورية.
للتذكير؛ عندما انطلق مؤتمر "جنيف 2"، في كانون الثاني/ يناير من العام الجاري، أكدت معظم التحليلات، المتفائلة والمتشائمة على حد سوء، أن المؤتمر سيشكل اختباراً صعباً للجهود الدولية والعربية ولطرفي الصراع في سوريا، وأن مقياس النجاح أو الفشل يرتبط وجوداً وعدماً بمدى اقتناع الجميع باستحالة حل الأزمة بوسائل عسكرية، فضلاً عن التكلفة الإنسانية والمادية لأي حلول تبتعد عن تسوية سياسية أساسها بيان "جنيف 1"، ومدخلها تفسير دولي وإقليمي مشترك لما ورد في البيان.
ومما كان يدعو للتفاؤل، أثبتت وقائع ونتائج المعارك العسكرية الطاحنة بين الجيش النظامي والمعارضة المسلحة، لاسيما في الشهور الستة التي سبقت انعقاد مؤتمر "جنيف 2" وجرى فيها تصعيد القتال، أن ميزان القوى على الأرض يدحض، وبما لا يدع مجالاً للشك، إمكانية المراهنة على حسم الصراع عسكرياً لصالح أحد طرفيه. يضاف إلى ذلك تلمس القوى الدولية والإقليمية الفاعلة لمخاطر تمدد الصراع الداخلي السوري، ليشمل بعض دور الجوار، لبنان والعراق تحديداً، بما قد يفجر صراعاً إقليمياً يخرج عن نطاق السيطرة، خاصة على ضوء انفلات لغة الخطاب والتحشيد السياسي الطائفي والمذهبي الذي يستخدمه البعض في خضم الأزمة.
في المقابل؛ لم تكن لدى أي محلل موضوعي أوهام بأن مجرد انعقاد مؤتمر "جنيف 2" سيفتح الطريق تلقائياً أمام تسوية سياسية ممكنة، وقابلة للحياة بمصادقة أطراف الأزمة الداخلية السورية عليها، وبحصولها على دعم كل الأطراف الدولية والإقليمية المؤثرة والفاعلة، من خلال بذل الجهود لتذليل العقبات وجسر الهوة بين النظام والمعارضة.
وكانت المهمة الأصعب في مهمة المبعوث الإبراهيمي هي الوصول إلى خطوات بناء ثقة على الأرض بين الطرفين المتحاربين، أولها وأهمها وقف إطلاق النار ونبذ العنف، واستكمالها بخطوات عملية وسريعة، بالإفراج عن المعتقلين وتبادل الأسرى، والتخفيف من المعاناة الإنسانية للمدنيين، من خلال إيصال المؤن والمواد الأساسية والطبية والوقود، والسماح للمنظمات الإنسانية والهلال والصليب الأحمر بالدخول إلى المناطق المحاصرة، وصولاً إلى فك الحصار نهائياً عن المناطق المدنية وتحييدها، وفتح ممرات إنسانية تكون مكفولة من قبل الطرفين المتقاتلين بضمانات دولية. وكل ذلك لا يؤسس فقط عوامل ثقة بين السلطة والمعارضة بالحدود الدنيا المطلوبة على الأقل، بل يشكل أيضاً مدخلاً كي تحظى المبادرات السياسية والحلول المقترحة بدعم شعبي، وقد أثبتت المصالحات المحلية بين الجيش النظامي ومقاتلي المعارضة في بعض المناطق أن المزاج الشعبي عموماً ضد العنف وتصعيده.
إلا أن مؤتمر "جنيف 2" اصطدم، كما كان متوقعاً وأشرنا إلى ذلك في مقالة سابقة، بخلافات حادة حول مفهوم الهيئة الانتقالية ودورها ومهامهما وحدود صلاحياتها، ودور الرئيس الأسد شخصياً في المرحلة القادمة. بالإضافة إلى الخلافات الواسعة بين مكونات المعارضة السياسية والمسلحة، وضعف تأثير المعارضة السياسية على مكونات المعارضة المسلحة، وكذلك معضلة قوة وتأثير المجموعات المتطرفة مثل "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام"(داعش) وجماعة "النصرة"، على ضوء ما جرى ويجري في الشهور الماضية من صدامات دموية بين "داعش" وباقي المجموعات العسكرية المعارضة، في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، في دير الزور والرقة وبعض ريف حلب.
بالإضافة إلى انفجار خلافات كبيرة داخل صفوف "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" إزاء مسألة المشاركة في مؤتمر "جنيف 2"، وبقاء قوى سياسية رئيسية خارج إطار الائتلاف، مما يضعف الصفة التمثيلية له.
إن كل ما سبق أدى إلى فشل الجهود التي قام بها الأخضر الإبراهيمي، وسيواجه مرة ثانية من سيخلفه في مهمته الصعبة، وحتى لا يتكرر ما وقع معه مرة أخرى، ومن قبله مع سلفه كوفي عنان، ينبغي أن يعمل الجميع على العودة إلى روح بيان "جنيف 1"، وتذليل عقبة الخلافات حول تفسير بنوده، والضغط على طرفي الصراع المسلح لوقف إطلاق النار، والالتزام بمسار سياسي ممنهج لحل الأزمة ضمن سقف زمني محدد، بما يحقق مصالح كل أبناء الشعب السوري، معبراً عنها بتمكين الشعب السوري من أن يختار مستقبله بحرية وديمقراطية.
المصدر: أنباء موسكو