مؤشرات لقرب إعلان نهاية الوباء؟
نشرت منظمة الصحة العالمية نهاية شهر آذار الماضي تقريرها الأسبوعي عن حالة كوفيد-19 عالمياً، والذي احتوى على أحد المؤشرات المهمّة حول تغيُّر بانتشار متحوّرات الفيروس؛ فقد أشارت إلى أنه لم يبقَ حالياً سوى دلتا وأوميكرون (مع سيطرة أوميكرون ذي الخطورة الأقل) في حين حدث ما يمكن أن نعتبره انقراضاً لكلّ المتحوّرات الأخرى المصنّفة «مثيرةً للقلق» بعد الاختفاء شبه التام للإبلاغ عن حالات جديدة (من ألفا وغاما والبقية) في كلّ أنحاء العالم على مدى الأشهر الثلاثة الماضية. وبدأت تتزايد التصريحات التي تتوقع قرب نهاية الوباء، الأمر الذي أشارت إليه المنظمة نفسها ولو بتحفّظ وحذر، قائلة بأنّ «الوباء لن ينتهي في أيّ مكان حتى ينتهي في كلّ مكان».
تحدّث مدير منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، يوم 9 آذار الماضي عن «انخفاض حالات الإصابة والوفيات المبلغ عنها عالمياً، ورفع العديد من البلدان للقيود»، ولكنه أضاف «على الرغم من ذلك لم ينته الوباء بعد - ولن ينتهي في أيّ مكان حتى ينتهي في كلّ مكان».
وفي تحليل نشر في الأول من آذار المنصرم، لمؤسسة ماكينزي الأمريكية ذات التاريخ الطويل في تقديم الاستشارات لقطاع الأعمال الرأسمالي، قامت المؤسسة بمراجعة حول الوباء للإجابة على سؤال جعلته عنواناً لتقريرها: «متى سوف ينتهي وباء كوفيد-19». مثل هذه التقارير الصادرة عن هكذا مؤسسات، قد تكون مفيدة ليس على مستوى الصحة العامة والطب بدقة، بقدر ما أنها قد تعطينا فكرة عمّا يدور في خَلَد النخب العالمية التي عادةً ما تقف خلف كواليس تمويلها وأفكارها، وذلك لأننا نعلم من تجربة ثلاث سنوات مع هذا الوباء كيف أنه كثيراً ما كانت تقييمات النخب والحكومات والمنظمات فوق الحكومية مشوبة بالانزياحات والتطرّفات سواءً باتجاه التهويل أو التهوين المتعمّدَين للآثار الصحّية الموضوعية، لأسباب اقتصادية-سياسية.
«تعب» وابتعاد متزايد عن الالتزام بالقيود
بالنسبة لتقرير مؤسسة ماكينزي المشار إليه، نبدأ من إيرادها لملاحظة ملفتة للانتباه وهي حدوث تباعد متزايد ما بين عدد الحالات المسجَّلة وبين سلوك الناس وتعاملهم مع الوباء، باتجاه يعكس نوعاً من التعب والملل من الالتزام بالقيود. حيث جاء في التحليل:
«هناك انقطاع إلى حد كبير للترابط بين الحالات من جهة والتعديلات السلوكية من جهة ثانية. وتشير البيانات إلى أنّ المزيد والمزيد من الناس قد استنتجوا أنّ المخاطر الصحية لكوفيد-19 ليست كبيرة بما يكفي لتغيير سلوكهم، إمّا بسبب حالة التطعيم أو عمرهم الشاب أو الرغبة في الخروج من الوباء... وتماشياً مع هذا الاتجاه، خلصت بعض الحكومات إلى أنّ إجمالي التكاليف المجتمعية لعمليات الإغلاق أو القيود المفروضة على الأعمال التجارية أو ارتداء الكمامات تفوق الفوائد في هذه المرحلة من الجائحة. ومع ذلك، تحافظ حكومات أخرى على سياسات الصحة العامة أو تعززها، بما في ذلك تفويضات اللقاحات. وتظل العديد من أماكن العمل حذرة نسبياً في سياساتها، ولكن استجابات الصحة العامة لأوميكرون كانت عادةً أقل شدة من تلك التي سادت في السابق رغم الأعباء المَرضية المماثلة».
لكن في الحقيقة يبدو أن الاستجابة ومستوى الاستنفار الإعلامي حول الوباء الذي انخفض بالفعل قد حدث رغم أن بعض المؤشرات الوبائية ليست فقط «مماثلة» - كما قال تقرير مكينزي - بل وحتى «زائدة» مقارنة بفترات سابقة، كما يظهر المخطط التالي للموجة الربيعية الحالية للاختبارات الإيجابية الأعلى مما سبق (ولكن التي لا تعني بالضرورة مرضى ذوي أعراض أو حالات شديدة):
وربما يساهم جزئياً في قلّة «الصّخب» هذه المرة – إضافة لطغيان الحدث الأوكراني على ما سواه – أنّ الوفيات والخطورة أقلّ نسبياً كما يُظهِر المخطط التالي لموجة الوفيات الأحدث (مقارنة مثلاً مع موجة شتاء وربيع 2021):
«المرض المُتوطِّن» كشكلٍ لنهاية الجائحة
منذ الأشهر الأخيرة من سنة 2021 الماضية، بدأ يزداد تداول الأخبار عن أنّ مصير الجائحة سينتهي إلى بقاء شكل أقلّ خطورة من الفيروس يجول بين الناس في بعض الجغرافيات بشكلٍ يشابه ما يحدث مع الإنفلونزا الموسمية أو غيرها من الفيروسات المعتادة. وهذا ما يعرف باسم المرض «المُتَوطّن» endemic. وهذا يعني أنه لا يعود يصنّف كـ«جائحة» pandemic. ووفقاً لتعريف المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والسيطرة عليها CDC فإنّه «من وجهة نظر علم الأوبئة، يمكن تعريف مرض ما على أنه متوطّن عندما يكون موجوداً بمستوى يمكن التنبؤ به ولا يتطلب تدخّلات تقيّد المجتمع».
وبالمثل كتب تقرير ماكينزي المشار إليه عن أنّ «السيناريو المفترض، هو أنْ يظل أوميكرون المتحوّر السائد، حتى الانتقال نحو إدارة كوفيد-19 كمرض متوطّن بالفعل في العديد من المواقع... وسيتم الشعور بمرحلة الوباء وكأنها قد انتهت بالنسبة لعدد متزايد من الناس، على الرغم من أنه ليس لدى الجميع بالتأكيد».
هل اقتربت نهاية «القيود الوبائية» كشمّاعة؟
يبدو أنّ مؤسسة ماكينزي إضافة لإيرادها التعريف الصحيح عِلمياً لـ«توطّن» المرض من وجهة نظر علم الأوبئة، لكنها تضيف إليه مصطلحاً ومفهوماً لا علاقة له بعلم الأوبئة الطبي، حيث تتحدث عن مرحلة لاحقة للتوطّن الوبائي أسمتها «التوطّن الاقتصادي» للمرض وعرّفته كما يلي: «حدوث فكّ ارتباط كبير بين الوبائيات والنشاط الاقتصادي، وتتلاشى التأثيرات الاقتصادية إلى حدّ كبير». ويفصح التقرير أكثر عندما يتابع بشرح ما يقصده بـ«التوطّن الاقتصادي للمرض» فيقول «يرتبط هذا التعريف الاقتصادي بتعريف السلوك الفردي، ولكنه قد يستغرق وقتاً أطول للوصول إليه لأنّ تلك الآثار الثانوية، بما في ذلك اضطرابات سلاسل التوريد، واضطرابات سوق العمل، والتفاوتات العالمية التي تؤثر على السفر والتجارة، قد تستمر». وبالطبع نعلم أنّ الأسباب الجذرية لهذه الاضطرابات المذكورة لا تكمن في «البيولوجيا» بل في «الاقتصاد السياسي» للرأسمالية وأزمتها المتفاقمة. كما وأننا نعلم أنّه في الواقع لا يوجد انفصام بين الحالة الصحية للبشر سواء في عافيتهم أو مرضهم، من جهة، وبين باقي نواحي نشاطهم وخاصة الاقتصادي. ولذلك ربما يعكس هذا التنظير في تقرير مكينزي نيّة النخب العالمية، الغربية خاصةً، بأنْ يتم التخلّي في المستقبل القريب عن استخدام الحالة الوبائية المتعلّقة بكوفيد-19 وإجراءاته – إما نهائياً، أو مؤقتاً ريثما «يظهر متحوّر مقلق جديد» – كشمّاعة لأغراض أخرى (اقتصادية وسياسية) لا علاقة مباشرة لها بـ«الحرص المزعوم» على صحّة الناس كما حدث خلال السنوات الثلاث الماضية.
وفي الحقيقة يتابع التقرير ليفصح أو يضيء بالفعل على بعض خطط الغرب المقبلة، فيقول:
«إلى أن يظهر متحوّرٌ جديد، وفي ظلّ بعض السيناريوهات حتى بمجرّد ظهوره، فمن المرجَّح أنْ تستمر الولايات المتحدة وأوروبا في التحرك نحو تعريفات التوطُّن هذه. عندما يحدث ذلك، فإنّ البلدان في جميع أنحاء أوروبا تتراجع عن آخر قيود الصحة العامة. وتخطط إنكلترا لإنهاء متطلبات العزل لأولئك الذين ثبتت إصابتهم (وتنهي الاختبارات المجانية للأشخاص الذين لا تظهر عليهم أعراض). وأعلن مركز السيطرة على الأمراض في الولايات المتحدة مؤخراً عن تغيير في إرشادات ارتداء الكمامات مقلّلاً من عدد المناطق التي يوصى فيها بهذا الإجراء بشكل كبير. وأصبحت أعداد المسافرين على الخطوط الجوية في الولايات المتحدة أقرب بكثير إلى مستويات ما قبل الجائحة. واجتازت المدارس الموجة الأخيرة باضطراب أقل مما سببته موجات المرض السابقة».
تجدر الإشارة إضافة لذلك إلى إجراء للمركز الأمريكي للسيطرة على الأمراض، لم يذكره تقرير مكينزي، ولم يحظَ بانتباه إعلامي كبير، ألا وهو تعميم قرار في الولايات المتحدة للمخابر بأنْ تنهي اعتماد فحص PCR لتشخيص كوفيد-19 بدءاً من العام الجديد 2022، وأن تستعيض عنه بفحص مخبري «متعدد المهام»، والسبب المعلَن لذلك كان من أجل التمييز والتشخيص لكل من كوفيد والإنفلونزا بمسحةٍ واحدة.
على كل حال، يبقى احتمال إعادة استعمال النخب الغربية للأوبئة وقيودها أمراً قائماً، إذا ما أخذنا بالاعتبار بوادر تصاعد أكبر لموجات الاحتجاج الاجتماعي الجديدة مع مزيد من التعمق للأزمة الاقتصادية ولا سيّما أزمات الطاقة والتضخم.