التعاون لدفع العدوان.. أو القيام به
في عمق الأحداث اليومية المتسارعة بطابعها الدموي، دروس تاريخية عظيمة، ما لم نفِد منها يبدو أننا سنستكمل عبور نفق طويل من التفتيت والاهتراء. فالغرق في تفسير ظاهر الأحداث وتأويلها بات، في معظمه، جزءاً من النفخ في أوار الاحتراب الذي يكمّل بعضه بعضاً من أجل السلطة والنفوذ وفُتات الثروة. إذ إن ظواهر مجريات الأحداث هي مجرد رأس جبل من الجليد لا يكشف عن مسبباتها ولا يتيح قراءتها، بل على العكس، يزيدها تسبّباً في فوضى غريزة القطيع «الخلاقة» وحرية التعبير عمّا يحجبه «العقل» من أمراض ساديّة أومازوشيّة.
والحال، ان العاصفة التي تضرب الظواهر الظاهرة تحت الأضواء، هي نتيجة زلازل تحت الأرض، وهي ليست عرَضيّة طارئة ولا محلّية أو إقليمية بل معولمة مستدامة. فانفجار «الهويات القاتلة» على قول أمين معلوف يشمل أرجاء الكون كافة بأشكال متفاوتة، لكن بعضها يدرجه «المجتمع الدولي» على لائحة الإرهاب، بينما يرفع بعضها الآخر إلى مصاف الثورة (في سوريا وأوروبا الشرقية والقوقاز....) أو إلى قمّة الديموقراطية. (الصهيونية، المحافظون الجدد ودعاة صراع الحضارات في أعقابهم، النازيات الجديدة في برلمانات أوروبا الغربية والشرقية...). وذلك ليس عبثاَ أو مصادفة، بل هو في سياق تحوّلات المنظومة الدولية من «الدولة ــ الأمة»، إلى «دولة» حرية الرأسمال في إلغاء دور الدولة الناظمة لاستقرار الفئات الاجتماعية المتناقضة المصالح والطموحات، (سبُل العمران وأسباب المعاش) والناظمة بالتالي لاستقرار الجماعات العرقية والإثنية والأفراد. فبينما تكسّر حرّية الرأسمال (حرية التجارة، والسوق، والرأسمال الأجنبي المباشر) حدود الدول وتقضي على ما كان يُعرَف بالسيادة الوطنية وعلى توازن الفئات الاجتماعية، تقلع المشترَك الأعلى في الجغرافيا السياسية من جذوره وتحارب حرية تنقّل الأفراد والعمل والإقامة خارج حدود الدول.
في سياق هذا التحوّل المزلزِل الذي تصاعد منذ أواسط التسعينيات، جرى الانتقال من الدولة ـ الوطنية، إلى الدولة ـ السوق بوجه عام، وهو ما يسمى في الأدبيات النيوليبرالية «دولة المواطنين الأفراد»، لكنها في واقع الأمر سلطة من دون دولة تأخذ على عاتقها إدارة «اندماج» حطام الدولة في السوق الدولية، والاحتكام إلى قوانينها الجيو ـ سياسية في «استراتيجية السلام» وانكفائها عن محيطها الاقليمي. بموازاة ذلك، تحتكم هذه السلطة إلى طقوس «الديموقراطية» النيوليبرالية في احتراب القوى السياسية والاجتماعية على تقسيم عائدات «الاندماج» (النمو)، بينما تتحكم حفنة من الشركات المتعددة الجنسية والأفراد (1 في المئة) بسوق المال والأعمال. في هذا المجرى العام لم تتنافس الطبقة السياسية في البلدان العربية التي شهدت ثورات «تغيير النظام» على رؤى وبرامج إعادة بناء الدولة في تغيير منظومة الانهيار الجيوسياسي والأمن القومي والاقتصاد ــ الاجتماعي، بل تحترب في ما بينها في خندقي «دولة مدنية، أم إسلامية» للوصول إلى السلطة في إدارة نموذج الانهيار نفسه. فهي عملياً تحترب في ما بينها تحت غطاء قيَم أخلاقية أشاعتها «الديموقراطية» النيوليبرلية باسم «الحرّية ضد الاستبداد» بحسب النموذج الأميركي المعولَم. والحالة هذه أن أقصر الطرق إلى التحرر من استبداد ما بات يسمّى «الدولة العميقة»، هو التخلّص من السلطة المركزية، بإنشاء سلطة لكل جماعة في تقسيم الجغرافيا السياسية وتفتيتها. فعندما تفقد الدولة دورها الناظم لحماية المشترَك الأعلى للجماعة الوطنية، وتتحوّل جغرافيتها السياسية إلى سوق حرّة، تفقد «سيادتها» ومبرر وجودها الذي قام أساساً من أجل حماية المشترَك الأعلى على أرض الدولة، في السياسات الدفاعية والخارجية والاقتصادية ــ الاجتماعية. وإذا كان هذا الشيء الذي يُسمى «دولة المواطنَة» (سلطة السوق الحرّة) يقوم على القيَم الأخلاقية «الديموقراطية» كما تروّجها الثقافة السياسية النيوليبرالية (إدارة النزاعات على طاولة المفاوضات، محاسبة السلطة يوم الانتخابات، التكاذب في قيَم المحبّة والتسامح ونبذ العنف....)، فهو شيء يستجلب لا محالة انفجار قيَم أخلاقية أخرى موروثة أو مستحدثَة تقوم على رابطة الدم والقبيلة (ليبيا واليمن والسودان، أفريقيا وآسيا) أو على رابطة اللون الأبيض (النازيات الجديدة) أو رابطة الدين (الفاشيات المتعددة الأطوار منها القاعدة وداعش). وهي قيَم يكمل أحد وجهيها الوجه الآخر.
لكن أعتى عتاة الليبرالية الذين دعوا إلى «مناهضة الاستبداد» في عصر التنوير والنهضة الأوروبية، لم يبلغوا بدعة بناء الدولة على أسس الحرّية وباقي الطقوس الأخلاقية (جون لوك، 1632ــ 1704، معاهدة الحكومة المدنية،» 1690»، منشورات أمازون، باريس، 1999)، بل أرادوا تقييد سيادة سلطة الحكم «بمعاهدة» تتقاسم السلطات على أساسها مؤسسات سياسية وهيئات إدارية للحدّ من استبدادها، وليس بناء الدولة. فدمقرطة السلطة تحدُّ من استبداد الحكم، لكنها لا تُلغي تسلّط الطبقة السياسية وعنفها بحال من الأحوال (جورج لبيكا، نظرية العنف في التاريخ، فرين، باريس، 2008). كما أن هذه السلطة الديموقراطية لا يتوازن طغيانها، من دون سلطة معنوية بموازاتها في المجتمع المدني تقارع سلطة الحكم من أجل حماية الحقوق من عسف السلطة، (أحزاب، نقابات، روابط مهنية، جمعيات حقوقية وروحية.....)، خلافاً لدُرجة «المجتمع المدني» في وظيفة مساعدة السلطة بتنظيف أوساخها. والأهم أن سلطة الحكم والسلطة الموازية لها، لا تبنيان دولة ديموقراطية كما تبشّر الثقافة النيوليبرالية بهرطقة جنّة الله على الأرض إذا أخذت السلطة بالحريات وحقوق الإنسان. فبناء الدولة هو مسار تاريخي مختلف تمام الاختلاف عن أشكال الحكم والسلطة، وهو حقل خاص في تاريخ «العمران البشري» أساسه «التعاون في دفع العدوان أوالقيام به»، على قول عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته (1332 ــ 1406). ولم يكن بناء الدول على أساس «دفع العدوان» مقتصراً على ما بات يُعرف «بداخل» حدود الدولة، بل كان مجاله الأرحب هو الكرة الأرضية حيث يمكن الوصول بالعدوان أو القيام به. فالعمران البشري كان ولا يزال أساسه المؤسِّس هو الاستراتيجيات العسكرية والجيوسياسية والتوسّع الاقتصادي ــ الاجتماعي (بول كينيدي، صعود وانحدار القوى العظمى، بايوت، باريس، 1988).
فنقطة الانطلاق التي بدأت منها «الجماعة الوطنية»، وهي معاهدة «وستفاليا» (1648)، لم تكن في تاريخ «العمران البشري» كما أدلجها معظم المفكرين الأوروبيين وتلامذتهم، نتيجة التسامح الذي أدّت إليه مآسي حروب الثمانين سنة الدينية بين البروتستانت والكاثوليك (1568 ــ 1648). إنما أدّت إليها تحوّلات جيو ــ سياسية هائلة على مستوى المعمورة نتج منها صعود أوروبا على ظهر انحدار الامبراطورية العربية في الأندلس. (غيستاف لوبون، «1841ــ 1931»، انحدار العرب، «1884» المجلد السادس، منشورات فريمين ــ ديدو، باريس، 1990) ففي العام 1492 الذي سقطت فيه غرناطة آخر معاقل الامبراطورية العربية في أوروبا، بدأ الأوروبيون «اكتشاف أميركا» تمهيداً لاستعمارها ونهب الذهب وباقي ثرواتها الطبيعية (الأرض والبذور، والمعارف البرّية بدون ملكية فكرية) وكان لهذا المسار التاريخي أثر عظيم في تمرّد الفلاحين وفي تمرّد الملوك وأمراء الإقطاعيين على «الامبراطورية الرومانية المقدّسة» التي كانت تضم 300 ولاية أوروبية بحجم ألمانيا والنمسا واسبانيا.....إلخ. ثم بدفع من هذه التحوّلات الكبرى تفكّكت «الامبراطورية المقدّسة» إلى أمراء بروتستانت في مقاطعاتهم، وإلى انقسام الامبراطورية بين أسرة «هابسبورغ» الحاكمة في اسبانية الكبرى، وأختها نمساوية ــ هنغارية أصغر. لكن ما أدّى إلى معاهدة «وستفاليا» في إرساء أسس الدولة ــ الأمة وولادة «الحدود القومية»، هو التعاون «لدفع العدوان» الذي وصلت إليه السلطنة العثمانية في هجومها على هنغاريا. فالسلطان سليم الثاني الذي حكم بين عامي 1566 ــ 1574 توسّع إلى القرم ورومانيا وبلغاريا ويوغسلافيا... وحاصر بلغراد وفيينا، ما أدّى إلى القول فيه «إن العالم كلّه لا يتسع لسلطان». إزاء هذا التهديد تعاونت امبراطوريتا أسرة «هابسبورغ» وملوك أوروبا وأمرائها، على ضوء «تحريم كنسي» أطلقه البابا «كليمنت الثامن» عام 1595 لنصرة أوروبا المسيحية. (جورج باجيه، حرب الثلاثين سنة (1618 ــ 1648)، بايوت، باريس، 1991). ولم تنهِ معاهدة «وستفاليا» الحروب في أوروبا التي استمرّت حتى الحرب العالمية الثانية، لكنها فتحت أبواب الانتقال من الهوية الدينية في الممالك والامبراطورية، إلى الهوية العرقية في دولة ــ أمة «ذات سيادة» داخل حدودها الوطنية.
الإصلاح الديني (البروتستينية ــ الكالفينية) جاء في هذا المسار. وكذلك الاصلاحات الدستورية ــ المدنية (وهي في أي حال كانت قبل الثورة الفرنسية عام 1789، إصلاحات قام بها ودعا إليها نبلاء مسيحيو الهوية والعقيدة مثل مونتسكيو وغيره)، لكن الانتقال من الهوية الدينية في الامبراطورية إلى الهوية العرقية في دولة ــ أمة ذات حدود وطنية بعد معاهدة «وستفاليا» وملحقاتها، أساسه تحوّلات جيو ــ سياسية كونية، انتقل فيها مركز الثقل من الشرق إلى الغرب. ولم تبنِ هذه الدولة نفسها في إصلاح نظام الحكم داخل حدودها، سبيلاً للازدهار والاستقرار السياسي، كما يشاع لغطاً، بل كان مجالها الكون بأسره في الصراع في ما بينها على استعماره، فانتقلت من «دفع العدوان» إلى القيام به. وكنّا نحن كما كان غيرنا كثير، ضحايا صعودها وتوسّعها، على ما سيلي في القسم الثاني.
المصدر: السفير