ما دامت المفاوضات خياراً وحيداً
كعادتها لم تف الحكومة "الإسرائيلية" بتعهداتها ووعودها لوزير الخارجية الأمريكية جون كيري التي أعطتها لاستئناف المفاوضات في يوليو/ تموز من العام الماضي، فلم تطلق سراح الدفعة الرابعة من قدامى الأسرى الفلسطينيين، فبدا وكأنها وضعت مسلسل المفاوضات أمام نهايته . وفي مناورة مفهومة للدفاع عن النفس وتحسين الصورة، وفيما بدا رداً على نكث الحكومة "الإسرائيلية" لتلك التعهدات، تقدمت السلطة الفلسطينية بطلبات الانضمام إلى (15) منظمة ومعاهدة دولية، فثارت الحكومة "الإسرائيلية" وأثارت معها زوبعة كبيرة، وأقدمت على إجراءات عقابية ضد السلطة، وهددت بضم المستوطنات إلى الكيان رسمياً، وبدا وكأن الأمور تزداد تعقيداً وتدهوراً، عندما لم تتأخر موافقة الأمين العام للأمم المتحدة والحكومة السويسرية على طلبات انضمام السلطة لتلك المنظمات والمعاهدات.
ولكن وسط ذلك كله، برز أمران:
الأول، أن المنظمات والمعاهدات الدولية التي تقدمت السلطة الفلسطينية بطلبات الانضمام إليها، لم تشمل ميثاق روما، وبالتالي لم تشمل المحكمة الجنائية الدولية . والثاني، أن الحكومة "الإسرائيلية" في إجراءاتها العقابية ضد السلطة الفلسطينية، استثنت اتصالات "التنسيق الأمني"، وعملية المفاوضات . وذلك يعني باختصار، أمرين أيضا: الأول، أن التحركات الجارية ما زالت في مجال المناورة . والثاني، أن الأطراف ما زالت تعمل للبقاء في إطار "الوضع القائم" .
لقد جاءت تأكيدات الرئيس محمود عباس، وكذلك عدد من الناطقين باسمه، أن الانضمام للمنظمات والمعاهدات الدولية لم يقصد به الصدام مع أحد، أو الإضرار بأحد، وأنه لا يعني أبداً التخلي عن "عملية السلام"، والأهم أنه لا يعني التخلي عن "أسلوب المفاوضات" كخيار وحيد لاسترداد ما تطالب به السلطة من حقوق . ولم يكن أدل على ذلك من تجنب طلب الانضمام إلى ميثاق روما والمحكمة الجنائية الدولية، حيث أكثر ما يخشاه "الإسرائيليون" ملاحقتهم جنائياً . وليس أدل من التمسك بالمفاوضات والعمل للتوصل إلى "صيغة" أو "صفقة" تبرر التمديد لها والعودة إلى مسلسلها، من استمرار الاجتماعات بين طواقم المفاوضات بالرعاية الأمريكية، ولا أهمية كبرى لما تقوله السلطة من أن ذلك يتم التزاماً منها بحدود المهلة المقررة لهذه المفاوضات، إذ يفترض أنه بعد "الإجراءات الأحادية" التي اتخذها الطرفان تكون المفاوضات قد انتهت . لكن استثناء "التنسيق الأمني" من الإجراءات العقابية "الإسرائيلية" يكشف حقيقة مضمون المفاوضات من حيث المبدأ، وهي أن الحكومة "الإسرائيلية" تتمسك بما يفيد مخططاتها الاستيطانية والتهويدية فقط، وأن ما تقدم عليه السلطة الفلسطينية من إجراءات لا تمس هذه المخططات بسوء .
لقد قيل الكثير حول انضمام السلطة الفلسطينية إلى المنظمات والمعاهدات الدولية . قيل إن ذلك حق للشعب الفلسطيني، وقيل إنه تجسيد للاعتراف الدولي ب"دولة فلسطين"، وقيل إنه سيحسن من ظروف مقارعة الاحتلال "الإسرائيلي" . لكن الأقرب الى الدقة في كل ما قيل، هو إنه كان "خطوة في الاتجاه الصحيح" . لكن "الاتجاه الصحيح" ليس خطوة واحدة، ولا حتى خطوات، إنه "مسار" كامل يعتمد على "نهج" متكامل، وهما ما لم تستند إليه ولم تعتمد عليه خطوة السلطة الفلسطينية عندما تقدمت بطلبات الانضمام .
ومن جملة ما قيل حول الموضوع أيضاً، إنه يعيد القضية الفلسطينية إلى مرجعية "الشرعية الدولية"، أي إلى مرجعية قرارات الأمم المتحدة الخاصة بها، وإخراجها من فضاء المرجعية الأمريكية - "الإسرائيلية" . كذلك قيل، إنه يعيد الأراضي الفلسطينية المحتلة، بعد الاعتراف ب "دولة فلسطين" لتكون "دولة تحت الاحتلال" . كل ذلك صحيح، ولكن هل هي المرة الأولى التي توضع القضية الفلسطينية تحت مرجعية "الشرعية الدولية" وقرارات الأمم المتحدة؟
ليس في أرشيف الأمم المتحدة أكثر من القرارات الخاصة بالقضية الفلسطينية، وليس أكثر من القرارات التي اعتبرت الأراضي الفلسطينية في العام 1967 "تحت الاحتلال"، وتلك التي اعتبرت كل الإجراءات التي أقدمت عليها الحكومات "الإسرائيلية"، من استيطان وتهويد وتغيير في التركيبة الديمغرافية والمعالم والآثار . . . إلخ إجراءات غير شرعية (قرار محكمة لاهاي حول الجدار مثلاً)، فماذا كانت النتيجة؟ لقد كان فشل وعجز "الشرعية الدولية" والأمم المتحدة عن وضع قراراتها موضع التنفيذ أن دخلت الوساطات الدولية على الخط حتى انتهت إلى الرعاية الأمريكية، ولا ننسى أن ما أوصلها إلى هذه النتيجة هي الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتمسك السلطة الفلسطينية بها وتعمل على استرضائها بكل الطرق والوسائل، ولو كان التفريط بحقوق الشعب الفلسطيني .
وبالرغم من كل ما أظهرته سنوات التفاوض العقيمة من عقم وعبثية، اعترف بها المتمسكون بالمفاوضات، إلا أنهم على لسان الرئيس محمود عباس، بعد تقديم طلبات الانضمام إلى المنظمات والمعاهدات الدولية، لا يزالون يؤكدون أنه ليس لديهم خيار غير خيار المفاوضات خياراً وحيداً، وأنهم لا يفكرون في، بل يرفضون أي وسائل أخرى . وهم ضد المقاومة من حيث المبدأ، باستثناء ما يسمونه "المقاومة الشعبية"، مقاومة خالية من الدسم، ويكررون الإعلان أنهم ضد العنف ويعتبرونه إرهاباً .
ولعل من أكبر المصائب، أن تجد نفسك مضطراً لتكرار المسلمات ! فالمفاوضات وحدها، في ظل ميزان قوى مختل لمصلحة عدوك، يعني قبولك الاستسلام، في نهاية المطاف، لشروطه ومطالبه . ألم تثبت سنوات التفاوض العقيمة والعبثية هذه الحقيقة؟ ألم يتضح أن الحكومات "الإسرائيلية" لا تعترف بالشعب الفلسطيني أو بشيء من حقوقه في فلسطين؟!
إن أي خطوة جيدة تتخذ، وأي إنجاز يتحقق هو بلا فائدة، ما دامت المفاوضات خياراً وحيداً . . . هذا ما يجب أن يعرفه الجميع .
المصدر: الخليج