أزمة المنظومة الغربية والانهيار الحضاري الشامل
د. أسامة دليقان د. أسامة دليقان

أزمة المنظومة الغربية والانهيار الحضاري الشامل

تتعمق أزمات المنظومة الغربية الرأسمالية، والصفة «غربيّة» ليست «جغرافية» فقط رغم تمركز المنظومة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، بل تعني أيضاً أنّ أتباعها جميعاً ولو وُجِدوا في «الشرق» فإنهم محكومون بالتراجع مع سفينتها الغارقة. الأزمة الاقتصادية أساس تتولّد منه، بنهاية المطاف، باقي الأزمات الاجتماعية والسياسية والثقافية والعلمية وغيرها، وتدخل معها وفيما بينها بحالة «طنين»؛ بمعنى أنها تعزز بعضها على طريقة «الحلقة المفرغة» مسببةً «أزمة حضارية شاملة» نشهد تجلياتها العديدة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: أزمة الطاقة وإخفاقات مكافحة الوباء بما فيها مؤخراً نقص فعالية اللقاحات الغربية أكثر من غيرها، وتزايد الانتحار والجريمة لدرجة إغلاق المدارس في عدة ولايات أمريكية، وليس انتهاءً بفشل تجارب صواريخ فرط صوتية، وغيرها...

أزمة الإنتاج والإنتاجية

توقّع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي نمو الناتج المحلي الحقيقي 2% فقط عام 2024 و1.8% سنويًا بعد ذلك، وهو أقل من وسطي السنوات العشر الماضية. وفي الربع الثالث من 2021 تراجع نمو الإنتاجية في الولايات المتحدة (على أساس ربع سنوي) أكثر من معدله في 60 عامًا، بينما انخفض المعدل السنوي بنسبة 0.6%، وهو أكبر انخفاض منذ 1993.

أزمة الظلم والاستغلال الطبقي

● خلال 40 عاماً قبل كوفيد-19، ارتفع انعدام عدالة الدخل الأمريكي، فتزايدت حصة الـ 1% الأعلى، من 12% عام 1985 إلى 22% بحلول 2017 على حساب أجور 80-90% من أصحاب الدخل، التي انخفضت بالقيمة الحقيقية بين 1970 و2015 كما يظهر من الخطوط المتصلة في المخطط أدناه (المصدر: كتاب «رأسمالية الغَسَق» الصادر هذا العام 2021. أما الخطوط المتقطعة فتظهر تراجع إنتاجية العمل في أمريكا منذ مطلع القرن 21 والتي لم تمنع مع ذلك تزايد الاستغلال).

111

● تزايد المعدّل الأمريكي لاستغلال العمال من قبل رأس المال منذ أواخر الثمانينيّات (وفقاً للمصدر السابق أيضاً، محسوباً بنسبة القيمة الزائدة s على مجموع رأس المال المتغيّر v والعمل غير المنتج u):

 2222

الأزمة المالية، والتضخم، وفقاعة الديون

● وفقاً لتحليل مالي لمؤسسة «غافيكال» في 31/7/2020 بعنوان «عواقب السيولة النقدية عديمة القيمة»: خلال الأشهر القليلة التي سبقت منتصف 2020، سجّل نموّ المعروض النقدي الأمريكي ارتفاعات جديدة أسبوعياً، ليبلغ في منتصف 2020 نسبة 24.9% على أساس سنوي، أي أكثر من 6 أضعاف معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، وأكثر من 3.5 ضِعفاً من معدل النمو السنوي الوسطي للمعروض النقدي للفترة من 1960 إلى 2019 (والبالغ نحو 6.8% كوسطي سنوي). وعلّق التقرير: «لذلك ليست وهماً أبداً تلك الفكرة القائلة بتعرّض النَّقد لخطر انعدام القيمة، إذْ إننا لم نشهد هذا المعدل لطباعة النقود من قبل في تاريخ الولايات المتحدة أو أي اقتصاد آخر لمجموعة السبع».
ولكي يتشكل عند القارئ تصوُّرٌ أوضح عن فداحة هذا الجنون غير المسبوق في سرعة مطبعة النقود الأمريكية، نرفق المخطط الوارد في التحليل المذكور (لاحظ القفزة في 2020).

333

● في إحدى أوراق منتدى فالداي المنشورة في تموز 2021 بعنوان «ما بعد حكم ديون الدولار» كتب الباحث ألكسندر لوسيف: «المبلغ الإجمالي للنقود في العالَم، بما فيه العملات المعدنية والأوراق النقدية وأرصدة الحسابات، يصل إلى ما يعادل 37 تريليون دولار، ويمثل الدولار الأمريكي بذاته حوالي نصف هذا المبلغ (19.2 تريليون دولار). فإذا أضفنا إليه الودائع، يعادل المعروض النقدي العالمي، بالمعنى الواسع، 98 تريليون دولار. وتتجاوز القيمة الإجمالية للماليّة (الفاينانس) العالمية، والتي تشمل، بالإضافة إلى النقود، أدوات الاستثمار (الأسهم والسندات والقروض) والمشتقات المالية والعملات المشفرة: 1.2 كوادريليون دولار» (الكوادرليون هو ألف ترليون، أو واحد على يمينه 15 صفراً!).
● بلغ التضخم العام في الولايات المتحدة 6.5% الشهر الماضي (كانون الأول 2021)، وهو الأعلى منذ 40 عامًا، وفقاً للمحلل الماركسي مايكل روبرتس، مشيراً إلى أنّ الاحتياطي الفيدرالي مأزوم وكذلك بنك إنكلترا والمركزي الأوروبي. ولا يبدو في جعبتهم سوى تكرار إجراءات مثل «التيسير الكمي»، ورفع سقف الدَّين إلى مستويات أخطر كما فعلت واشنطن (إلى 31.4 ترليون دولار) لتجنّب التخلف عن السداد حتى أوائل 2023، مما سيسرّع تقويض دور الدولار كعملة عالمية.

أزمة صحية حتى قبل الوباء

● فقدت أمريكا حوالي 10% من قواها الصحية العاملة بدوام كامل بين 2012 و2019.
● لم تخصص للصحة العامة والوقاية من إجمالي إنفاقها الصحي (البالغ 3.8 ترليون دولار في 2019) سوى 2.6% وهي أدنى نسبة منذ 2000.
● لم تخصص الحكومة لمكافحة أشهر مرض يميّز «حضارة الاستهلاك» الأمريكية وهو البدانة، سوى 31 سنتاً فقط لكلّ فرد من السكان في السنة!
● بعد أول حالة مؤكدة لكوفيد-19 في الولايات المتحدة، تأخَّر مركز السيطرة على الأمراض (CDC) لأكثر من 15 أسبوعاً حتى أنشأ موقع إنترنت عامّ لتّتبع الوباء.

أزمة التعليم

● صحيفة «أمريكا اليوم» (12/11/2021): «حتى قبل الوباء كان 35% فقط من طلاب الصف الرابع الابتدائي بارعين في القراءة... يعاني نظامنا التعليمي من الجمود والتردد».
● موقع ماكينزي عام 2020: حتى قبل كوفيد-19 حصل 60% فقط من الجامعيين على درجة علمية بدراسة 6 سنوات حتى 2017 (آخر سنة تتوفر عنها بيانات). الأرقام أسوأ للطلاب السود 39.9% ومن أصول لاتينية 54.4%. ونسبة الالتحاق بالجامعات من ناجحي المدارس الثانوية تتفاوت عرقياً: 69% من الناجحين البيض، و61% من العرق الإسباني، و59% من السود، فضلاً عن ارتفاع أعباء الديون على الطلاب وانخفاض قدرتهم على السداد.
● للمرة الأولى بتاريخ تقرير «تايمز للتعليم العالي» لتصنيف أول 1000 جامعة بالعالم من 77 بلداً، ينخفض تصنيف الجامعات الأمريكية فتغيب عن أول مرتبتين منه، كما تراجعت حصتها باستقبال الطلبة العالميين من 28% منهم عام 2011 إلى 22% عام 2014.
● عام 2016 كان هناك رد فعل عنيف ضد معايير الامتحانات، فامتنع 60 ألف طالب ثانوي في ولاية واشنطن عن المشاركة بالاختبارات العامة، وفي بعض بلديات واشنطن الثرية رفض أكثر من 90% منهم المشاركة بامتحان الرياضيات الوطني.
● انتقدت مؤرّخة التعليم ديان رافيتش والمساعدة السابقة لوزير التعليم الأمريكي السياسة التعليمية في بلادها لضعف استنادها إلى معايير علمية سليمة: «سياستنا الوطنية عبارة عن نظرية قائمة على افتراض يستند إلى الأمل».

أزمة الإبداع والابتكار

● في أيلول 2020 قالت بلومبرغ: «على مدى القرنين الماضيين، كانت بلادنا رائدة العالم بالابتكار التكنولوجي، أما الآن فنحن نخسر قدرتنا التنافسية ضد آسيا وأوروبا».
● يعترف تقرير لجامعة هارفرد عام 2004 بأنّ «الولايات المتحدة تعوزها بعض الميزات الجوهرية الضرورية لتنمية الأشخاص المبدعين أو الأفكار المبتكرة أو الشركات الجديدة. وبدلاً من ذلك، تكمن ميزتها الحقيقية في قدرتها على جذب هذه (المحركات الاقتصادية) من جميع أنحاء العالم. كان التدفق الهائل للمهاجرين الموهوبين من الأمور الحاسمة للنجاح الأمريكي في القرن الماضي... في التسعينيات وحدها، كشفت أرقام التعداد السكاني أن أكثر من 11 مليون شخص جاؤوا إلى أمريكا في أكبر موجة هجرة في تاريخها، جلبت المواهب من جميع أنحاء العالم... منهم شخصيات بارزة في التكنولوجيا العالية، مثل سيرغي برين، المؤسس المشارك لشركة غوغل والمولود في موسكو، والمؤسس المشارك لخدمة البريد الإلكتروني Hotmail صابر بهاتيا من بنغالور. ويبلغ سكان الولايات المتحدة المولودين في الخارج [حتى 2004] أكثر من 30 مليونًا، أو حوالي 11% من السكان». واقتبس التقرير من جيمس لانجر، نائب رئيس الأكاديمية الوطنية للعلوم انتقاده لسياسات بلاده التي «تعزل العِلم الأمريكي عن بقية العالم».
● تراجعت الولايات المتحدة عن ريادتها في براءات الاختراع، أمام منافسين آخرين ولا سيّما الصين التي احتلت الموقع الأول بالابتكار في 9 من أصل 10 مجالات تكنولوجية ورقمية عام 2017 وفقاً لدراسة لموقع «نيكاي» الياباني، كما في الشكل أدناه.

 4444