فرنسا تتراجع أمام الجزائر، وتخسر جولة سياسية

فرنسا تتراجع أمام الجزائر، وتخسر جولة سياسية

التطورات اللافتة التي تطرأ على العلاقات الجزائرية - الفرنسية، والتي لا تزال في طور التغيير حتى اللحظة بدت غير مفهومة، وخصوصاً أن ما جرى حتى اللحظة بدا للبعض أنه حدثٌ دون مقدمات واضحة كما لو كان استعمار الجزائر  عسكرياً من قبل فرنسا لـ 132 عاماً ومن ثم استعمارها اقتصادياً لعقودٍ تالية لا يكفي كمقدمة لأزمة العلاقات الحالية!

يُظهر بعض المتأثرين بالخطاب الاستعماري الغربي تململاً واضحاً ممّن باتوا يسمونه «استثمار الجزائر في تاريخها» ناسين أو متناسين أن هذا التاريخ الذي لا يزال حاضراً حتى اليوم، لا في ذهن «الحكم الجزائري» فحسب، بل في ذهن الشعب الجزائري كله، يتم استثماره وبشكل وقح من قبل فرنسا نفسها، فالرئيس الفرنسي حاول متذاكياً التشكيك بوجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي واستند إلى ماضي بلاده الاستعماري القذر أملاً في استمالة قوى اليمين في الانتخابات القادمة في محاولة بائسة للإتجار بذاكرة الجزائريين. إلا أن الرئيس الفرنسي تراجع بسرعة ليطلق ما أسماه «سياسة مصالحة الذاكرة» في محاولة للتلاعب وتدارك الموقف.

 

التراجع السريع!

ردت الجزائر على تصريحات الرئيس الفرنسي بإجراءات سريعة سياسية واقتصادية وعسكرية، فاستدعت سفيرها من باريس، وأغلقت مجالها الجوي أمام الطيران العسكري الفرنسي المتجه إلى مالي، وأعلنت مضيها في تعريب بعض الإدارات والتقليل من استخدام اللغة الفرنسية في الإدارات والأكاديميات واستبدالها عند الحاجة باللغة الإنكليزية. وطالبت الجزائر فرنسا بالاعتذار ومعاملتها معاملة دولة ذات سيادة وبشكلٍ ندّيٍ مع فرنسا، بالإضافة إلى تجديد المطالب بالرفع عن الأرشيف السري الذي يعود لحقبة الاستعمار واستعادته بوصفه جزءاً من التاريخ الوطني الجزائري.

فرنسا سارعت لتهدئة الأجواء وذهب وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في زيارة رسمية إلى الجزائر في 8 من شهر كانون الأول الجاري، في مبادرة فرنسية أملاً في عودة العلاقات السياسية بين حكومتي البلدين في مطلع السنة الجديدة، لتقوم لاحقاً وزيرة الثقافة الفرنسية، روزلين باشلو، وبتوجيه من الرئيس الفرنسي بالإعلان عن بدء رفع السرية عن جزء من الأرشيف السري لحقبة الاستعمار.

 

أسئلة لا تزال مطروحة

ذهاب وزير الخارجية الفرنسي إلى الجزائر شكّل حدثاً فريداً من نوعه، فقد وجدت فرنسا نفسها مضطرة لإظهار وجهٍ مختلف و«أكثر موضوعية» تجاه ماضيها القذر، حتى وإن كان لهذه الخطوات ارتدادات غير مرغوبة بالنسبة للرئيس الفرنسي في الداخل. فما الذي قد يدفع فرنسا للتصرف بهذا الشكل؟

لا شك أن الاعتراف الفرنسي الرسمي بحقيقة جرائمها يعد موضوعاً أكبر من مجرد مادة للاستثمار في الانتخابات الرئاسية، فالجمهورية الفرنسية ستجد نفسها مضطرة لمراجعة صورتها وتلك الأسس التي قامت عليها أمام شعبها أولاً، فالماضي الاستعماري لفرنسا ليس جزءاً من التاريخ فحسب، بل على العكس! هو جزء حي في جسد الجمهورية الذي يحمل في داخله حتى اللحظة إرث حقبة الاستعمار ويستند على هذا الإرث بشكّل مجمّل لتثبيت أقدام النظام السياسي. ومن هنا يجب التنبيه إلى أن ما جرى يعد خطوة بسيطة في هذا الاتجاه، حتى أن البعض يرى أن إعلان وزيرة الثقافة الفرنسية ما هو إلا محاولة للتضليل أملاً في إظهار حسن النوايا. فهدف فرنسا الفعلي مما يجري هو محاولة تهدئة الأجواء مع الجزائر واستعادة العلاقات المقطوعة لا أكثر، ومن هنا يبقى السؤال المطروح، ما الفائدة التي خسرتها فرنسا بعد قطع  العلاقات مع الجزائر؟ باريس تراقب كغيرها من قوى الاستعمار القديم والجديد خسارة نفوذها في القارة الإفريقية، فالعلاقات الاقتصادية مع الجزائر والتي كانت دائماً تصب في مصلحة فرنسا أولاً، لم تعد خيار الجزائر الوحيد، وأصبحت الصين شريكها الأول، وباتت العقود والامتيازات التي احتفظت بها فرنسا لوقت طويل في خطر حقيقي حتى قبل أزمة العلاقات الأخيرة، ويبدو أن الرد الجزائري على الخطوة الفرنسية كان في تسريع هذا التحول عبر استهداف بقايا ثقافة الاستعمار من جهة، وتسريع «التوجه شرقاً». هذا بالإضافة إلى إضعاف الوجود الفرنسي في أفريقيا في الوقت الذي لا ترى باريس أصلاً مستقبلاً واضحاً وتحديداً في مالي.

ما يحدث في الجزائر قد لا يمثل استراتيجية واضحة المعالم لدى البلد العربي، وقد لا يتعدى كونه استجابة طبيعية للمتغيرات الجارية في العالم، لكن هذه الاستجابة قد تتحول سريعاً إذا ما أخذنا كافة الضغوط التي تحيط بالجزائر لتصبح توجهاً استراتجياً للقطع مع الغرب وعملائه والتوجه إلى الشرق عبر المنافذ الآمنة المتاحة. وستشكل استراتيجية كهذه، إذا ما جرى اتباعها فعلاً، علامة فارقة في التحول الجاري في أفريقيا.