«أوبك+» وفقدان واشنطن للسيطرة
لا تعاني الولايات المتحدة من أزمةٍ واحدةٍ أو اثنتين، بل العشرات منها، اقتصادية وسياسيّة واجتماعيّة، ولكلٍّ منها تفرعات أخرى كالأزمة الماليّة والنِّفط والحُكم والصِّحة وإلخ، وجميعها ترتبط فيما بينها، وتؤثر إحداها على الأُخرى، إلا أنّ لمُجمل هذه الأزمات مُسبّبٌ واحد: الأزمة الرأسماليّة العالميّة.
مُراقبة عن كثب
أعلنت مُنظّمة البُلدان المُصدّرة للنّفط «OPEC»، في بيانٍ نُشر بعد قمّة جمعت أعضاءها الـ 13، وحلفاءهم في إطار تحالف «OPEC+» يوم الخميس (2 كانون الأول الجاري)، الالتزام بخارطة الطّريق التي وضعوها في 18 تمّوز الماضي، وذلك بالمُضي قُدماً بالزيادة المقررة في إنتاج النفط في كانون الثاني المُقبل بقيمة 400 ألف برميل يومياً، في إطار التقليص التدريجيّ للتخفيضات القياسيّة المتفق عليها عام 2020، وذلك في ضوء دراسة أساسيات سوق النفط الحالية، وتماشياً مع الأشهر السابقة «من دون الحاجة إلى اتخاذ إجراء إضافي في الوقت الحالي»، كما شدد الوزراء على استمرار التزام الدول المشاركة في إعلان التعاون بضمان سوق نفط مستقرة ومتوازنة، على أنْ يظلّ الاجتماع في حالة انعقاد انتظاراً لمزيد من تطورات جائحة فيروس كورونا، ومواصلة مراقبة السوق عن كثب، وإجراء تعديلات فورية إذا لزم الأمر.
وسجلت الأسعار في تشرين الثاني أكبر انخفاض شهري لها منذ بداية الجائحة بفعل مخاوف تخمة الإمدادات بسبب انتشار السلالة «أوميكرون»، وترواحت حوالي 70 دولاراً للبرميل خلال الشهر، مقارنة مع أعلى مستوى في ثلاثة أسابيع عند 86 دولاراً للبرميل في تشرين الأول الماضي، لتتراجع سريعاً – عُقب بيان«OPEC+» – إلى مستويات تلامس 67 دولاراً للبرميل، وهو أدنى مستوى مُنذ الثلث الأخير في شهر آب الماضي.
التزام وتوازن
مع تلويح واشنطن باتخاذ «إجراءات في الوقت المُناسب» إنْ لم يزد التحالف إنتاجه النفطيّ، رفض تحالف «OPEC+» ضغوط واشنطن العلنيّة والمُتكررة لزيادة إنتاج النفط بوتيرة أسرع – بحجة «دعم الاقتصاد العالمي» – خِشيَة أن تُلحِق تُخمة المعروض ضرراً بالتعافي «الهش» في قطاع الطاقة العالمي.
ما اضُطر واشنطن للكشف عن «إجراءاتها» وذلك باستخدام مخزونها الاحتياطي النفطي الاستراتيجي والإفراج عن ملايين البراميل في تشرين الثاني الفائت، لخفض أسعار النفط بعد أن مضت دعواتها إلى «OPEC+» للتحرك دون استجابة، واستند الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى ارتفاع أسعار البنزين في الولايات المتحدة والتضخم الذي يطارد البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم لحشدِ مزيدٍ من التأثير لتلك الخطوة من خلال إشراك دول أخرى، منها اليابان والهند والمملكة المتحدة.
ووفقاً لخبراء فإنّ قرار الولايات المتحدة بشأن الاستخدام من المخزون النفطي الاستراتيجي «خطوة رمزية» لن تؤثر على المدى البعيد في خفض أسعار النفط، بل تأتي لتأمين الاحتياجات الداخلية أكثر منه التأثير على أسعار الأسواق العالمية، فالسحب من الاحتياطي عبارة عن اقتراض ويجب أن تعيد الحكومات المُقترضة ملء تلك المخزونات مجدداً.
إلا أنّ «OPEC+» تمكّنت من تحقيق الاستقرار في أسعار النفط بعد أسبوعٍ مُتقلِّب، كاشفةً أنّه «ليس هناك حاجة لأنْ تقوم المجموعة برد فعلٍ غير محسوب لتعديل سياسة الإنتاج»، وأنّها لا ترغب في التوسع أكثر من ذلك؛ لعدم تدهور الأسعار خاصة بعد الخسائر الكبيرة التي تكبدتها خلال العامين الأخيرين في ظلّ أزمة كورونا، والتي وصلت لأن تهبط الأسعار لنحو 37 دولاراً للبرميل، وأنّ «السعر ليس الهدف، فالهدف هو إعادة التوازن والاستقرار للسوق واستدامته».
تناقض
بات تَخبُّط وتناقض الإدارة الأمريكيّة واضحاً بشكلٍ جليّ، ففي حين تدعو الإدارة الشركات المحليّة، لضرورة مراعاة التغيّر المناخيّ والحفاظ على البيئة ووقف التكسير الهيدروليكي في استخراج النّفط الصخري، تطلب الإدارة ذاتها من منتجيّ النفط في الخارج زيادة إنتاجهم لخفض حُمّى الأسعار والتضخم!! وإذ تعدّ أكبر منتج للنّفط في العالم، إلا أنّ المصافي الأميركية تعمل على النفط الثقيل الذي كان يُستورد سابقاً من فنزويلا ،وفي ظلّ العقوبات عليها اتضحت حاجة الأميركيين إلى النّفط الروسيّ كونه الأنسب للمصافي الأميركيّة.
هذا التضارب هو سبب ضمن أسبابٍ كثيرة تجعل الشركات الأمريكيّة المحليّة لا تستجيب لدعوات الرئيس الأمريكي لزيادة الإنتاج على حساب أرباحهم لتخفيض الأسعار، فشركات النفط الصخري الأمريكيّة حالياً تعيش واحدة من أفضل فتراتها عند هذه المستويات السعرية وبهذه الكميّات الحالية، ولا ترى أي ضرورةٍ لرفع الإنتاج لإرضاء الإدارة والرئيس.
أميركا وفقدان السيطرة
بعد عقود من تربّع الولايات المُتّحدة كمركز لهيمنة المنظومة الغربية، عبر ربط عُملتها بالسلعة الأكثر تداولاً عبر العالم وهي النّفط، بدأ يظهر على السطح التغيّر الفعليّ للأوزان في السوق، والعلاقة فيما بينها وخصوصاً علاقة الهيمنة على السعودية ومنها على أوبك، واستخدام الفوائض النفطية في سوق المال الأمريكية، وآليات تسعير النّفط في السوق الدولية.
ففي تقريرٍ نشرته صحيفة «فزغلياد» الروسية، تقول الكاتبة أولغا ساموفالوفا إنّ النداء الأخير الذي وجهته الحكومة الأميركيّة لتحالف أوبك وروسيا «OPEC+» بضرورة رفع معدلات إنتاج النفط وخفض الأسعار، دليلٌ واضح على فقدان الولايات المتحدة سُلطتها على سوق النّفط العالمي.
وعن سؤال؛ لماذا أرادت الولايات المتحدة في وقتٍ سابق رفع الأسعار، وبات الأمر يزعجها حالياً لدرجة أنّها لم تتردد في توجيه نداء إلى كبار المنتجين من أجل رفع معدلات الإنتاج؟ أجابت بأنّه في العام الماضي، شهدت أسعار النفط انهياراً كبيراً بسبب الحجر الصحي المفروض في مختلف أنحاء العالم، ما أثر على إنتاج النفط الصخريّ والغاز في الولايات المتحدة، حيث تراوح سعر برميل النفط بين 40 و50 دولاراً، وأصبحت تكلفة استخراج المواد الخام أعلى من العائدات.
وتنقل الكاتبة عن الخبير الاستراتيجي في شركة «Exante» للاستثمارات جانيس كيفكوليس، قوله في هذا الشأن «في العام الماضي، كان لا بُدّ من رفع أسعار النفط بشكل عاجل لإنقاذ المنتجين الأميركيين، خاصةً منتجي النفط الصخريّ المثقلين بالديون»، وقد ساعد رفع أسعار النفط شركات النفط الصخريّ الأميركيّة على رفع معدلات الإنتاج، لكن ذلك كان يحول دون تعافي الاقتصاد الأميركي وخفض معدلات التضخم.
صداع أم أزمة نهائية
إنّ جميع عناصر هيمنة الولايات المُتحدة كمركزٍ تتعرض لتحدياتٍ فعليّةٍ حقيقيّة، تطرح جدياً تساؤلات حول إمكانيّة استمرارها، إلا أنّه ما زال هنالك من يراوغ بإمكانية النجاة من هذه الأزمة، و«أنّ الأمر بجُلِّه بمثابة صداع، فهي ليست المرة الأولى التي يرتفع بها النفط لهذه المستويات، ولن تكون الأخيرة كذلك».
غاب عن أذهان جهابذة الاقتصاد الأمريكيين الحقيقة الآتية؛ بأنّ الأزمة هي نهائيّة، وأنّ سوق النّفط العالميّة في وضعٍ مُضطربٍ ومختل، على الأقل خلال العقد الماضي، واختلالُها عنصرٌ مهمّ في الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، وعلى عكس رواية الإعلام السائد، لم تتسبب أزمة فيروس كورونا بأزمة الرأسماليّة العالميّة، لأنّ الأمر كان وشيك الوقوع بأيّة حال، كلُّ شيءٍ كان متوقعاً، والوباء لم يكن سوى شرارة الاحتراق التي أشعلت الاقتصاد العالميّ، الذي لم يكن قد تعافى أساساً من الانهيار الماليّ عام 2008.
أصبح من الأكيد أنّ الاستقرار مفردة صعبة التحقق مع الدخول في عُمق الأزمة الاقتصاديّة عالمياً، والتوقف الضخم وما سيعقبه من تراجع، حيث إنّ استمرار حالة عدم الاستقرار في سوق النفط العالمية أصبحت سِمَتها العامّة، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً على مصير المنظومة كاملةً لأنّ جميع الأسس التي قامت عليها تهتز، والأزمة الحالية هي انكشاف لجملة التناقضات الموضوعية الناجمة عن تغير موازين القوى الدولية في الطاقة وكل المجالات والتي تتفاعل منذ مطلع الألفية.