الإسكندرون والأزمة السوريّة .. هل تكفي التظاهرات؟
ممتدّاً على مساحة 4800 كيلومتر مربّع، يقع لواء اسكندرون شمال غرب سوريا مطلاً على البحر المتوسّط.
كانت منطقة إسكندرون تابعة لولاية حلب ضمن سوريا العثمانية. في العام 1938، وأثناء مرحلة الانتداب الفرنسي على سوريا، أعادت فرنسا منح اللواء حكماً ذاتياً مع بقائه مرتبطاً من ناحية شكلية بالجمهورية السورية، ثم أعادت إلغاء هذا الرباط الشكلي. وفي العام التالي انسحبت فرنسا من اللواء نهائياً، بعد استفتاء عام، قاطعه معظم سكّانه، العرب والأرمن والأكراد، وتمّ بموجبه اقتطاع الفرنسيين أراضي لواء الاسكندرون من الدولة السورية ومنحه للأتراك، كثمنٍ لدخول تركيا الحرب العالمية الثانية إلى جانب دول الحلفاء.
وخالفت فرنسا بذلك صكّ الانتداب الذي يلزم الدولة المنتدَبة بالحفاظ على أراضي الدولة المنتدب عليها. ودخلت لواء الاسكندرون قوات تركية، وقامت بضمّه وإعلانه جزءاً من الجمهورية التركية تحت اسم "هاتاي" في 29 كانون الأول العام 1939.
ويسكن الإقليم حالياً حوالي مليون نسمة، وليس هناك أيّ تعداد للنسب الإثنية من سكانه بسبب سياسة القمع التركية للأقليات القومية. ويشكو سكان الإقليم، العرب والأرمن والأكراد، من القمع الثقافي واللغوي والعرقي الذي تمارسه تركيا ضدهم، والتمييز ضد الأقليّات العرقيّة لمصلحة العرق التركي في كل المجالات، من أجل "التتريك" الكامل للواء.
وما زالت الخرائط السورية تظهر لواء اسكندرون على أنه منطقة سورية محتلة. ويُظهر موقع وكالة الأنباء السورية (سانا) اللواء باللون الرّماديّ.
وفي العام 1998، وبعد أزمة سورية - تركية كادت تتفجر صراعاً عسكرياً، تمّ التوصّل إلى تسوية سياسية في اتفاقية أضنة، تخلّت على أثرها سوريا عن دعمها لـ"حزب العمال الكردستاني"، كما تمّ الاتفاق على تأجيل أمر الاسكندرون إلى وقت لاحق. ونفت المصادر السورية أيّ تخلٍّ عن لواء الاسكندرون، إلا أنّها أعلنت أن المصلحة السورية تقضي بتأجيل القضايا الخلافية، والتطلع إلى التعاون الاقتصادي والسياسي مع تركيا في تلك المرحلة. وبالرغم من ذلك ظلّت الأوساط الشعبية في سوريا تطالب به. وخلال الأزمة السورية التي بدأت في العام 2011، أعادت سوريا الاسكندرون إلى خريطتها ملمّحة إلى مطالبتها بعودته.
وكان ولا يزال لأبناء اللواء وضع خاص في سوريا، حيث تستقبل كليّاتها سنويّاً مئات الطلاب من الاسكندرون، وتقدّم لهم كلّ التسهيلات اللازمة، بما فيها الامتياز بالدراسة في الفروع الجامعية التي يرغبون بها، بغضّ النظر عن معدّلاتهم في المرحلة الثانوية.
وعن سبب التحاقهم بالجامعات السورية، يجيبون صراحة أنها أقرب وأقلّ تكلفة مادياً من جامعات اسطنبول وأنقرة، كما أشار لوران الكردي لـ"السفير". كما أنّ التمييز العرقي والثقافي الذي يعانون منه في المناطق ذات الغالبية التركية يشكّل سبباً آخر لتفضيلهم الدراسة في الكليّات السوريّة، حيث يلقون التّرحيب والدّعم.
وتهدف الدولة السورية من التسهيلات المقدّمة لطلبة الاسكندرون الى المحافظة على ارتباطهم بالوطن الأمّ، يقابلها رفض الدولة التركية الاعتراف بالشهادات الصادرة عن جامعات سوريا.
وبسبب تصاعد العنف، نزح سوريون من شمال البلاد إلى الأراضي التركية، ومن ضمنها أراضي لواء اسكندرون المحتلّ حيث أقامت الدولة التركية عدداً من المخيمات لاستقبالهم فيها.
وبالإضافة إلى مخيمات اللاجئين، فقد قامت الدولة التركية باستقبال وإيواء المقاتلين و"المجاهدين" الذين توافدوا إلى الأراضي التركية كنقطة تمركز وانطلاق للقيام بعملياتهم القتالية داخل الأراضي السورية، حيث أقامت لهم المعسكرات ومراكز التدريب وقدّمت لهم الدعم المادي والعسكري واللوجستي.
لم يقبل أهالي لواء الاسكندرون بما قامت به الدولة التركية، لكنهم لم يفعلوا الكثير إزاء ذلك. يتذكّر لوران أنّه لم يكن يتوقّع منهم أيّة ردّة فعل عند بداية الأزمة السورية، بسبب بعدهم عن الوضع السياسي في سوريا، وما كان يهمّهم، برأيه، هو انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي آملين تحسّناً في التعامل معهم من قبل الدولة التركية من جهة، ومتطلّعين إلى ازدهار اقتصاديّ بعد الارتباط بأوروبا من جهة أخرى.
وتقول شذا القاضي، لـ"السفير"، إنّها كانت تتوقّع من أهالي الاسكندرون تنظيم احتجاجات ضخمة وإضرابات كبيرة في مدن وقرى اللواء، تعبيراً عن رفضهم للسياسة التركية تجاه وطنهم الأمّ، متسائلة ما إذا كانوا يعتبرون أنفسهم سوريين أصلاً.
في أيلول من العام الماضي، بدأت كتائب إسلامية، منها "جبهة النصرة"، ما أسمته معركة "تحرير الساحل السوري" المحاذي للواء الاسكندرون، مطلقين عليها "معركة أحفاد أمّ المؤمنين عائشة". ونتج من تلك المعارك نزوح قرى بأكملها من ريف اللاذقية الشمالي باتجاه مدينة اللاذقية وقرى أخرى آمنة، واختطِف ما يزيد عن 200 من نساء وأطفال تلك المناطق، ولا يزالون مخطوفين حتى الآن.
وفي 21 آذار الماضي، أعلنت "جبهة النصرة" وكتائب إسلامية أخرى متحالفة مع "الجيش الحر"، إطلاق معركة أسموها "الأنفال" ضد القوات السورية في منطقة الساحل، وتهدف، حسب ما أعلن قياديون في "الجيش الحر"، إلى تأمين منفذ إلى البحر المتوسط يتيح لهم الحصول على الأسلحة من داعميهم.
ونتج من "الأنفال" سيطرة الكتائب المسلحة على معبر كسب الحدودي مع تركيا وبعض القرى المجاورة. وبينما تقول شذا، لـ"السفير"، إنّه "لم يكن من المفترض أن يسمح أهالي لواء الاسكندرون للمسلّحين بالتمدّد بالقرب منهم بهذا الشكل"، يعتبر لوران أنّه كان يتوقّع منهم انتفاضة كبيرة عندما نصب حلف شمال الاطلسي بطاريات "باتريوت" بالقرب من الحدود السورية، وبعدما بدأت تركيا بمساندة المسلحين عسكريّاً أثناء هجومهم على الأراضي السورية، واستباحتهم لدماء أهالي ريف اللاذقية، لكنّ شيئاً فعّالا لم يحدث.
وتتساءل شذا هنا عمّا إذا كان أهالي لواء الاسكندرون يعيشون "حريّة" حقيقية، وعمّا ستكون عليه ردّة فعل الحكومة التركية في حال انتفاضة أهل اللواء وقيامهم بالتصعيد رفضاً لسياسة الحكومة التركية. يجيب لوران أنّه من المتوقّع أن تقمع الدولة التركية أيّ تحرّك من أهالي الاسكندرون بالقوّة. ويجزم بقيام السلطات التركية بالطّلب من الجيش التحرّك لإنهاء الاحتجاجات التي قد تحدث.
وفي العمق السوري، نشط تنظيم "الجبهة الشعبية لتحرير لواء اسكندرون"، المتمركز في سوريا، في الأزمة منذ بدء معركة "تحرير الساحل". شارك مقاتلوه، الذين يشكّل "اللوائيّون" العدد الأكبر منهم، في التصدّي للمسلحين القادمين من داخل الأراضي التركية، جنباً إلى جنب مع الجيش السوري وقوات الدفاع الوطني.
وفي داخل لواء الاسكندرون قام بعض سكّانه في مدنهم وقراهم بتظاهرات، معبّرين فيها عن رفضهم لسياسة الحكومة التركية ورفضهم لمساندة الجيش التركيّ للمسلحين المهاجمين للأراضي السورية.
فبالإضافة إلى منطقة السويدية، تظاهر أهالي منطقة حربيات في لواء الاسكندرون، ضد الممارسات العدوانية للحكومة التركية بحقّ الشعب السوري، وقطعوا الطريق أمام سيارات الإسعاف التي تنقل المسلّحين الجرحى الذين شاركوا في العدوان على منطقة كسب بريف اللاذقية الشمالي.
وتقول شذا، لـ"السفير"، إنّ ذلك ليس كافياً للضغط على الحكومة التركية لتتوقّف عن دعم المسلحين، ولن يدفعها ذلك إلى إغلاق المعسكرات والحدود في وجههم، فيما يؤكّد لوران أنّ "التظاهرات والاحتجاجات اللاعنفية هي مظاهر مألوفة في تركيا، وما من تأثير فعلي لها على تغيير السياسة التركية المعادية لسوريا".
نظرة السوريين إلى لواء الاسكندرون على أنّه أرض محتلّة، ومطالبتهم بعودته إلى الوطن الأمّ، تجعلهم ينتظرون من سكّانه ردود أفعال أعلى صوتاً وأكثر صخباً ممّا قاموا به. ينتظرون من أهالي اللواء احتجاجات وإضرابات وانتفاضات تشمل كلّ مدن وقرى الاسكندرون، تُجبر الحكومة التركية، على الأقلّ، أن توقف سياساتها تجاه سوريا، إن لم ينتج منها استفتاء لتقرير مصير لواء الاسكندرون.