«وحوش الظلام» تعتاش على تأخُّر التثمير السياسي للانتصارات الفلسطينية الوليدة
تشهد الأراضي الفلسطينية المحتلة استمراراً لنضال شامل للشعب الفلسطيني على الجبهة الداخلية ضد أعدائه: ضد قوات الاحتلال ومستوطنيه الذين يصعّدون وتيرة الاقتحامات والإخلاءات والاعتقالات والقتل والتضييق على الأسرى وغيرها من الانتهاكات، وكذلك ضد «وكلاء الاحتلال» كما سمّاهم الشهيد نزار بنات، المُمَثَّلون بسلطة التنسيق الأمني التي زادت وتيرةَ قمعِها واعتقالاتها لمعارضيها بدل أنْ تٌخَفِّفَ منها (ما لا يقل عن 75 اعتقالاً حتى الآن تلت المظاهرات المنددة بالاغتيال)، وتبدو مستعجِلةً للدخول في دوامة جديدة من «المفاوضات» العبثية مع الاحتلال كما عبّرت، الجمعة 23 تموز، على لسان حسين الشيخ، عضو اللجنة المركزية لفتح: «المفاوضات المباشرة مع الاحتلال (الإسرائيلي)، هي أقصر الطرق لإنهاء الاحتلال»!! لتقديم مزيد من التنازلات عن حقوق الشعب الفلسطيني، برعاية أمريكية، متوهّمة أنّها تستطيع بذلك إنقاذ نفسها من مأزقها، كما أعادت التأكيد مؤخَّراً على إعادة الطرح نفسه بخصوص إجراء الانتخابات الرئاسية بموافقة «إسرائيل» و«فوراً في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة»، فيما يبدو استغلالاً لهامش الوقت واستباقاً – أو محاولةَ عرقلةٍ – لنضوج أيّ تثميراتٍ سياسية-شعبية حاسمة لانتصار غزة والانتفاضة الفلسطينية الجديدة، لغير مصلحة استمرار النظام القائم الذي يساهم الاحتلال برعايته، حتى مالياً كما أكدت مؤخراً النقاشات الداخلية بين وزراء الكيان أنفسهم حول «ضرورة» السماح بوصول سلطة عباس إلى أموال الضرائب التي يتحكّمون بها، وتعبيرهم عن خوفهم من «انهيار» السلطة، فضلاً عن طلب واشنطن من الكيان تيسير هذا التمويل.
اتخذت الاقتحامات الصهيونية (جنوداً ومستوطنين) للمسجد الأقصى شكل تصعيد متواتر منذ عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وإعلانه «صفقة القرن»، وكانت تزيد أو تنقص ولكن لم تخفّ وتيرتُها نسبياً ومؤقتاً إلى مستوى يُعتَبر ردعاً لها، إلا في أعقاب الردود العسكرية للمقاومة من غزة (وخاصةً المفاجئات الصاروخية) أثناء العدوان الصهيوني الأخير عليها. فعاد التصعيد بالتزايد بشكل خاص بعد أن حطّت الحرب الأخيرة أوزارها وكذلك في مواصلة التهجير والإخلاءات (كما حدث في سلوان بعد الشيخ جراح).
فباتت الاقتحامات يومية منذ بداية الأسبوع، الأحد 18 تموز، عندما اقتحم نحو 1600 مستوطن المسجد الأقصى، بحماية قوات الاحتلال التي اعتدت على المصلين وأوقعت إصابات بالرصاص المطاطي وقنابل الغاز، مع حصار القدس القديمة، وترافق الاقتحام مع توجيه رئيس وزراء الاحتلال نفتالي بينت باستمرار اقتحامات المستوطنين للأقصى بشكل «منظم وآمن مع الحفاظ على النظام في المكان». وتحدثت تقارير صحافية «إسرائيلية» عن أنه لأول مرة يتم الاقتحام بمجموعات تؤدي صلوات تلمودية تامة تقريباً في باحات الأقصى بالقرب من باب الرحمة دون اعتراضها من شرطة الاحتلال، وأنه أمر غير مسبوق على هذا المستوى منذ 11 عاماً، وسط ما يبدو محاولةً لفرض التقسيم الزماني والمكاني في الأقصى على غرار ما حدث في الحرم الإبراهيمي في الخليل.
«وحوش الظلام» الجريحة
رغم ذلك، إذا لم تتم قراءة حملة التصعيد هذه في سياقها التاريخي المتّسم بالتراجع العام للقوى الإمبريالية وبالتالي لذراعها الصهيوني ومأزق كيانه «إسرائيل»، مقابل الصعود العام لقوى الشعوب، فإنها قد تؤدي لاستنتاجات خاطئة وتشاؤمية ومضلّلة بـ«عودة الأمور إلى ما كانت عليه» ما قبل بداية الحرب على غزة في 11 أيار 2021.
في الحقيقة يمكن اعتبار طاقة العدو على تصعيد انتهاكاته مؤشراً على أنّ ممارساته هذه تعتاش على فرق كمونٍ ما زال قائماً بين قطبٍ موجب يتمثل بالإنجاز العسكري والمعنوي لانتصار غزة وموجة المواجهات الشعبية الانتفاضية في القدس والضفة وأراضي 48 من جهة، وبين قطبٍ سالب يتمثّل بتأخر تثميرٍ سياسيٍّ يليق بهذا الإنجاز، وتتحمّل مسؤوليةَ تأخيرِه، ولو بنسبٍ متفاوتة، جميع القوى السياسية الفلسطينية، إضافة لوجود عاملِ وقتٍ موضوعي على ما يبدو، يتعلّق بالقانونية التاريخية لتَمَرحُل تحوِّل نشاط الحركة الشعبية إلى حركةٍ سياسية جديدة ناضجة وتشكيل فضاءٍ سياسيّ جديد يتناسب مع إلحاح المهمة التاريخية الأساسية وهي التحرير. ولذلك تكتسب المعركة السياسية حول إعادة بناء منظمة تحريرٍ فلسطينية فعّالة وجامعة وموحِّدة للشعب الفلسطيني أهميةً كبيرة، تلمَّسَها العديدُ من الثوريين الفلسطينيّين، ومنهم قياداتٌ تاريخية داخل سجون العدو، مثل الأسير مروان البرغوثي الذي سبق وأصدر رسالةً مهمّة بهذا الشأن تحديداً أثناء معركة غزة.
وينطبق على تصعيد الاعتداءات الأخيرة في الحقيقة توصيف أنطونيو غرامشي للفترة الفاصلة بين «القديم الذي لم يمت بعد» و«الجديد الذي لم يولَد بعد»، ولذلك نرى شراسةً لوحوش الظلام ليس لأنها باتت أقوى، بل على العكس، بسبب إفلاسها، وفي هذا الصدد يمكننا على سبيل المثال لا الحصر، ذكر حادثتين تجمعهما رمزية إفلاسٍ واحد لأعداء الشعب الفلسطيني: ارتكاب «إسرائيل»، في 15 أيار 2021 أثناء العدوان، لحماقة قصف «برج الجلاء» في غزة على مرأى ومسمع العالم كله رغم أنّه كان يضمّ مكاتب وكالات أنباء صديقة للاحتلال مثل «أسوشييتد برس» الأمريكية وغيرها. وهو إفلاس يشبه ارتكاب سلطة عباس لجريمة اغتيال المناضل نزار بنات في 24 حزيران 2021، فضلاً عن مواصلتها لهذا الإفلاس عبر قمع الاحتجاجات التي أعقبت ذلك، فكان من الطبيعي أن ترفض عائلة الشهيد مؤخراً مهزلة الاعتذارات الكلامية الفارغة كالتي أطلقها حسين الشيخ يوم الجمعة 23 تموز عندما قال «باسم الرئيس الفلسطيني أبو مازن (محمود عباس) وباسم السلطة الفلسطينية أقدم اعتذارنا عمّا حدث، ونعتبره مأساة» وأردف محاولاً تبرير الجريمة: «لكن هذا قد يحدث في أي بلد في العالم، يمكن لخطأ كهذا أن يحدث في أمريكا وفرنسا وأي بلد آخر في العالم»، وفضلاً عن ذلك جاء تصريحه لوسيلة إعلام أمريكية وليس حتى باللغة العربية.
اشتداد التناقضات مرحلة ضرورية لحلّها
نورد فيما يلي أمثلة على بعض التطورات الأخيرة في السياق نفسه، والتي يتبيّن منها أنّ تصرّفات أعداء الشعب الفلسطيني ليست أبداً تصرّفات «مُنتصرين» بل بالضبط تصرّفات «وحوشٍ جريحة»:
- العدو مذعور من انتفاضة الداخل: كشفت وسائل إعلام الاحتلال، الجمعة 23 تموز، أن شرطة الاحتلال أعدّت خطة للتعامل مع أيّ تظاهرات واسعة في المستقبل بالداخل المحتل عام 1948 على غرار ما جرى خلال معركة «سيف القدس». ووفقاً لما ذكره الإعلام الصهيوني فإن الخطة أعدها المفوض العام لشرطة الاحتلال، كوبي شبتاي، وتتلخص بالاستعانة بقوات ما يسمى «حرس الحدود» وليس جيش الاحتلال، حيث تهدف الخطة لتجنّب توريط جنود العدو في المدن «المختلطة» بالداخل المحتل عام 1948، وسط توقعات أن يوافق وزير الحرب بني غانتس عليها. وسبق أن اعترفت شرطة الاحتلال بفشلها الكبير في التعامل مع التظاهرات الفلسطينية الانتفاضية التي شهدتها مدن الداخل المحتل خلال معركة غزة الأخيرة في أيار الماضي. وبحسب ما تم الكشف عنه سابقاً فإنه وخلال المواجهات استُدعيت كل القوات الشرطية النظامية وكذلك قوات الاحتياط ومع ذلك لم تستطع السيطرة على الأحداث فتم استدعاء وحدات من حرس الحدود. ووفقاً لنتائج التحقيق فإن الشرطة كانت ستنهار خلال 4 أيام لو استمرت المواجهات بالوتيرة نفسها بسبب عدم كفاية أسلحتها ومعدّاتها واستعداداتها لسيناريو كهذا، وهو ما دفعها لشراء معدات بملايين الشواكل (عملة الاحتلال) لمدة تكفي لمواجهاتٍ تستمر لقرابة الشهر.
- سلطة التنسيق الأمني مستمرة بقمع معارضيها: وثّقت مجموعة (محامون من أجل العدالة) «منذ إعلان وقف إطلاق النار أواخر أيار الماضي وما تبع ذلك من أحداث عقب اغتيال الناشط بنات بتاريخ 24/6/2021 ما يقارب 100 معتقل منهم على الأقل ما يزيد عن 75 حالة اعتقال تلت مظاهرات منددة باغتيال الناشط بنات» وأكدت «استمرار خطاب التحريض الرسمي الذي مارسته وتمارسه شخصيات محسوبة على السلطة منها وزراء في حكومة محمد اشتية، وخاصة فيما يتعلق بقمع أيّ تظاهراتٍ تطالب بمحاسبة قتلة الناشط السياسي الراحل نزار بنات».
- انتصارات الأمعاء الخاوية ضد الاحتلال ووُكلائه: انتصر الأسير الفلسطيني الغضنفر أبو عطوان على سجّانه الصهيوني، منتزعاً منه في 9 تموز الجاري، قراراً بإلغاء اعتقاله الإداريّ، بعد خوضه إضراباً مفتوحاً عن الطعام لمدة 65 يوماً وعن الماء لمدة 5 أيام. هذا وما يزال 13 أسيراً آخر مضربين عن الطعام موزَّعين بين معتقلات العدو في النقب، وريمون، وعوفر. وفي مثال آخر، أصدرت نيابة رام الله الخميس 22 تموز، قراراً بالإفراج عن الناشط والمرشح على قائمة «طفح الكيل» فخري جرادات بعد اعتقال دام عدة أيام، بشرط كفالة مالية وتلبيته لحضور جلسات المحاكمة، وخاض جرادات إضراباً مفتوحاً عن الطعام منذ اليوم الأول لاعتقاله، الإثنين الماضي 19 تموز، احتجاجاً على اعتقاله لدى أجهزة سلطة التنسيق الأمني، دون إذن مسبق من النيابة ولا قرار احتجاز. و«التهم» التي وجهت إليه «إثارة النعرات العنصرية وذم مقامات عليا والتجمهر غير المشروع». وأشار محاموه إلى عدم قانونيتها وتعارضها مع حقوق دستورية كفلها القانون الأساسي الفلسطيني، والهدف منها تكميم الأفواه وقمع الحريات.
- لا جديد عند مفلسي أوسلو سوى مزيد من مفاسد السلطة والتنازلات: زعم عضو اللجنة المركزية لحركة فتح رئيس هيئة الشؤون المدنية حسين الشيخ في تصريح الجمعة 23 تموز، أنّ «المفاوضات المباشرة مع الاحتلال (الإسرائيلي) هي أقصر الطرق لإنهاء الاحتلال». وأضاف باستسلام: «السلطة الفلسطينية بلا سلطة ولا سيادة، لأن (إسرائيل) لها السيادة على الأرض والجو والمياه والحدود وكل شيء»، مردفاً: «المكالمة بين الرئيس عباس والرئيس الأمريكي جو بايدن خارطة طريق للفلسطينيين». وأكد أن عباس سيصدر مرسوماً بإجراء الانتخابات فوراً في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، إذا ما وافقت «إسرائيل» على إجرائها في القدس الشرقية، وشدّد «أنا لست مرشحاً أعتقد أن الرئيس أبو مازن هو أفضل مرشح الآن» على حد تعبيره.