«إسرائيل» تحفر قبرها عند الخط الأخضر
عُروة صعب عُروة صعب

«إسرائيل» تحفر قبرها عند الخط الأخضر

جزءٌ أساسيّ ممّا أثار دهشة العالم العربي تحديداً في هبّة الأقصى الأخيرة كان المشاركة الفعالة للفلسطينيين القاطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلّة منذ العام 1948 أو من يطلَق عليهم اسم «فلسطينيو الداخل» أو «عرب 48» اصطلاحاً (وهم مَن بقي داخل خط الهدنة أو الخط الأخضر الذي تم توقيع اتفاقيات الهدنة بموجبه في العام 1949 حسب الواقع الراهن آنذاك)، أولئك الذين حاول الكيان الصهيوني على الدوام تجاهلَهم أو دمجهم في تركيبة «دولة» الكيان الصهيوني في فترات مضت.

شهدت مناطق فلسطين المحتلة عام 1948 هبّةً شعبية واسعة تضامناً مع العائلات الفلسطينية التي حاولت سلطات الاحتلال «الإسرائيلي» إخلاءَ منازلِها قَسراً من حيّ الشيخ جرّاح في القدس الشرقية وإحلال مستوطنين فيها، وتضامناً مع المدافعين عن الأقصى ضد الاقتحامات المتكررة من طرف المستوطنين والقوات الصهيونية. وتصاعدت هذه الاحتجاجات وتوسعت مع ردّ جيش الاحتلال «الإسرائيلي» على صواريخ المقاومة التحذيرية ضد اقتحامات الأقصى بحرب عسكرية شاملة على قطاع غزة. وقد دفع اتساعُ رقعة المظاهرات في المدن والبلدات داخل الخط الأخضر رئيسَ الوزراء «الإسرائيلي»، بنيامين نتنياهو، في 12 أيار 2021، إلى إعلان حالة الطوارئ، خاصة في مدينة اللد التي شهدت صداماتٍ واسعة بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود، ومنح المفتش العام للشرطة الصهيونية حقّ الاستعانة بالجيش الإسرائيلي للمساعدة في وقف الاحتجاجات.

 الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية لفلسطينيّي 48

يصل عدد السكان الفلسطينيين في مناطق الـ48 المحتلة إلى نحو مليون وسبعمائة ألف نسمة، يحملون «الهوية الإسرائيلية» ويعيشون في الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية، إضافة إلى اللد والرملة. مثّلت الهبّة الشعبية الفلسطينية في مناطق الـ48 مفاجأةٌ كبيرة للمؤسسة السياسية والأمنية الصهيونية.

وقد جاءت هذه الهبّة ضمن واقع سياسي معقَّد عاشه الفلسطينيون داخل الخط الأخضر منذ انتفاضة الأقصى أواخر أيلول 2000، عندما خرجوا في احتجاجات شبيهة واسعة تضامناً مع إخوتهم في الأراضي المحتلة عام 1967 تصدّت لها القوات الصهيونية بعنف شديد أدى إلى مقتل 13 مواطناً فلسطينياً آنذاك.

حملت الانتفاضة آنذاك في طيّاتها معانيَ تؤشِّرُ إلى أنّ قضيّة فلسطينيّي الـ48 تمثّل جزءاً لا يتجزأ من جوهر القضية الفلسطينية.

استمرت السياسات الصهيونية في ملاحقة التنظيمات والقيادات السياسية التي اعتبرتها المؤسسة الصهيونية سبباً أو عاملاً في الانتفاضة.

كما عمدت إلى اتباع سياسات تهدف من خلالها إلى دمج فلسطينيّي الـ48 في الاقتصاد «الإسرائيلي»، نتج منها صعود حالة «الأسرَلة» التي تمثلت في ابتعاد الجمهور الفلسطيني في الداخل عن العمل السياسي الوطني الفلسطيني. ما نتج عنه أزمةٌ في الهوية.

تم الترويج لخطاب «الأسرلة» على أنّه يمثّل رغبات المجتمع الفلسطينيّ في التركيز على مطالب مدنيّة خدماتيّة فقط، وتحييد (ولربّما تغييب) الـمَطالب المتعلّقة بالوطن، ومناقشة جوهر النظام السياسيّ «الإسرائيلي». راهنَ هذا الخطاب على الاندماج في النظام السياسيّ «الإسرائيلي» دون مناقشة جوهره وتحدّي هذا الجوهر. هذا التحوّل في خطاب بعض الأحزاب العربيّة كان إحدى مهامّ النظام «الإسرائيليّ» لـ«أَسْرَلة» المجتمع الفلسطينيّ، بَيْدَ أنّ هذا الخطاب لم يصل إلى عمق المدى الذي هدف إليه.

وقد عمّق الانقسام الفلسطيني، أزمةَ الهوية تلك. وعزز حالة من الإحباط.

في حين عزز الكيان الصهيوني الطابع اليهودي للدولة، في الخطاب والممارسة، من خلال تشريع قانون القومية في تموز 2018. وقد جاءت أحداث القدس والعدوان على غزة لتفجّر حالة الغضب في ثلاثة تعبيرات واضحة، هي:

  1. أحداث حي الشيخ جراح في القدس.

مثّلت أحداث حي الشيخ جراح نموذجاً للنمط الاستعماري الاستيطاني الذي يستخدمه الكيان الصهيوني في المدن الساحلية واللد والرملة، من خلال استجلاب مستوطنين إلى أحياء سكنية فلسطينية وطرد السكان الفلسطينيين من بيوتهم بأدوات قانونية غير عادلة، بهدف تضييق المجال وتهويد المكان الفلسطيني.

  1. قمع الشرطة الصهيونية للمصلين في المسجد الأقصى.

دخلت الشرطة الصهيونية ساحات المسجد الأقصى في الثامن من أيار 2021، أي في أواخر شهر رمضان، وبدأت بقمع المصلّين ومنعهم من تأدية الصلاة، وقد أصيب خلال المواجهات معها أكثر من 200 فلسطيني. نظّم فلسطينيو الـ48 حافلات للوصول إلى المسجد الأقصى لإحياء الليالي الأخيرة من شهر رمضان، لكن الشرطة الصهيونية حاولت منع وصولها إلى المسجد، ما دفع الناس إلى المشي على الأقدام، ودفع المقدسيّين إلى التجنّد لنقلهم إلى المسجد الأقصى.

شكّلت القدس نقطة اللقاء بين نضال الفلسطينيّين عموماً، ونضال الفلسطينيّين في مناطق الـ48 على وجه الخصوص.

  1. الحراكات الشبابية ضد العنف والجريمة.

قبل أشهر من اندلاع الهبّة الشعبية، جرى تنظيم مظاهرات بمبادرات شبابية بين الشباب الفلسطيني في مناطق الـ48 ضد تواطؤ الشرطة الصهيونية وتخاذلها في مكافحة الجريمة والعنف. واعتمد الحراك على الاحتجاج والنضال الشعبي السلمي، قابلته الشرطة الصهيونية بقمعه.

وواجهت السلطات الصهيونية الهبّة الشعبية الفلسطينية في مناطق الـ48 بردّات فعلٍ عنيفة تمثلت في قمعٍ عنيف من الشرطة الصهيونية باستعمال الرصاص المطاطي والحيّ؛ ما أدّى إلى استشهاد شابَّين، في اللد وأمّ الفحم.

تمّ توسيعُ صلاحيات الشرطة الصهيونية، وإعطاؤها إمكانيةَ فرضِ حظر تجول، وإغلاق بلدات فلسطينية، ووضع حواجز على مداخل البلدات الفلسطينية في الداخل، واستدعاء قوات حرس الحدود من الضفة الغربية إلى البلدات الفلسطينية في الداخل من أجل المساهمة في قمع الهبّة الشعبية، وهي وحدات معروفة بعنفها.

وتم تنفيذ عمليات اعتقال مكثفة بحق الشباب الفلسطيني )أكثر من 1500 معتقل).

كما تم إطلاق حملة تحريض إعلامي وسياسي ضد الهبّة الشعبية ووصفها بالعمل التخريبي والإرهابي لتبرير قمعها.

تم تنظيم مجموعات يهودية مسلحة وغير مسلحة في ميليشيات تم استجلاب أغلب عناصرها من البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية عبر حافلات، لقمع الفلسطينيين في الشوارع، ومهاجمة محلاتهم وبيوتهم.

أكدت الهبّة الشعبية الفلسطينية في مناطق الـ48 على وحدة الشعب الفلسطيني وانتماء الفلسطينيين داخل الخط الأخضر إلى القضية الفلسطينية، وأنهم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني. وقد مثلت قضية القدس بما تحمله من تعبيرات رمزية، الرابط الرئيس الذي وحّد الفلسطينيين داخل الخط الأخضر مع بقية الشعب الفلسطيني.

لقد تجاوز الشباب الفلسطيني بوضوح القيادات والتنظيمات السياسية التي جاء تحرّكها منفصلاً ومتأخراً عن الهبّة الشعبية.

تقوم الشرطة الصهيونية مؤخراً، بقمع حتى التظاهرات السلمية، وتنفذ حملات اعتقال واسعة، وهذا لا يردع الشباب العربي، لقد تجاوز مرحلة الخوف من أذرع الكيان الصهيوني الأمنية، فمنذ انتفاضة القدس والأقصى عام 2000 ظهر جيل جديد حمّلته دولة الكيان كل رغباتها في أن تنسيه هويته، وكان يبدو أن هذا الجيل قد خضع لواقعه الدونيّ لكن جيل ما بعد تشرين الأول 2000 هو صاحب هذه الانتفاضة والذي راكم سياسات الغضب تجاه سياسات مؤسسة الاحتلال الصهيونية، وقرر قبل عام الخروج عن صمته وبدأ ينظم حراكات شبابية واحتجاجات شعبية سلمية.

أسهمت أحداث القدس في تفجّر حالة الغضب المتراكم في صفوف الفلسطينيّين في الكيان الصهيوني، الذين يعانون من تواطؤ الشرطة الصهيونية والنظام السياسيّ الصهيوني لمنع محاربة الجريمة والعنف الذي أغرق المجتمع الفلسطينيّ وأضعفه وأنهكه من الداخل، ومن جهة أخرى تتعامل بقمعيّة وعنف شديدَيْن مع الاحتجاج السياسيّ السلميّ في القضايا الوطنيّة. هذه السياسة - وإن كانت سافرةً - فقد بلغت ذروتها في أحداث القدس والأقصى.

 كيف شاركت «دولة» الكيان في مَحو الخط الأخضر؟

صعّدت «دولة» الكيان الصهيوني  من استخدام أدوات قمعها للهبّة الشعبيّة التي انتقلت من القدس إلى البلدات العربيّة داخل الخطّ الأخضر، إذ أُعطِيت الشرطة الصهيونية صلاحيات فرْض حواجز وتفتيش السيّارات في البلدات العربيّة؛ إغلاق مداخل بلدات عربيّة (على نحوِ ما حدث في بلدة عرعرة)؛ وضْع كتل إسمنتيّة على مداخل بلدات أخرى وإغلاقها (على نحوِ ما حدث في بلدة «جديّدة–المكر»)؛ إغلاق مناطق في المدن الساحليّة (على نحوِ ما فعلت في البلدة القديمة في عكّا خلال أيّام عيد الفطر)؛ فرْض حظر تجوّل على السكّان (على نحوِ ما حدث في اللدّ) وهي إجراءات كانت تنفذ في الضفة الغربية وقطاع غزة فقط قبل ذلك.

تجلّى محو الخطّ الأخضر في إدخال وحدات حرس الحدود الصهيوني لقمع الهبّة الشعبيّة، وذلك لدعم الشرطة الصهيونية، ولا سيّما في المدن الساحليّة واللدّ والرملة، وكذلك في بعض البلدات العربيّة في وادي عارة والجليل. استُدعِيت هذه الوحدات من الضفّة الغربيّة، وذلك لتمرُّسها في مواجهة الاحتجاجات الفلسطينيّة هناك.

تُبيّنُ هذه الأدوات أنّ الكيان الصهيوني تعامل مع الهبّة الشعبيّة للفلسطينيّين في الداخل كما يتعامل مع الاحتجاجات الشعبيّة في القدس والضفّة الغربيّة، وقد زاد عليها سياسة العقاب الجماعيّ ذي النزعة التأديبيّة، كمثل وضع حواجز بغية تحرير مخالفات للمَركبات في مداخل بعض البلدات العربيّة، على نحوِ ما حصل في بلدة «جديّدة–المكر». هذه المشاهد تعيد إلى الأذهان والواقع ما تمارسه قوّات الجيش الصهيوني في بلدات وقرى الضفّة الغربيّة عندما تصف بلدةً ما بأنّها بلدةٌ معادية.

ستحمل الهبّة الشعبيّة الكثيرَ من التداعيات على الفلسطينيّين داخل الخطّ الأخضر. أوّلاً وقبل كلّ شيء، أكّدت هذه الهبّة على وحدة الشعب الفلسطينيّ وانتماء الفلسطينيّين داخل الخطّ الأخضر للقضيّة الفلسطينيّة، وأنّهم جزءٌ من الشعب الفلسطينيّ. في هذا الصدد، كانت قضيّة القدس - بما تحمل من بُعد دينيّ وسياسيّ - الرابطَ الذي جمع الفلسطينيّين داخل الخطّ الأخضر مع الشعب الفلسطينيّ.

 أثبت التعامل الصهيوني مع الهبّة الشعبية في الداخل أنه شطبَ الخطَّ الأخضر. الكيان الصهيوني يتعامل مع كل الفلسطينيين الآن، كشعب فلسطينيٍّ واحد.