أوباما في الرياض: لتنظيم الافتراق أم تجديد الضمانات
(خلال اعداد التقرير الذي بين أيديكم، وردت أو رشحت بعض المعلومات مصدرها مسؤولين كباراً في الادارة الاميركية نشرتها صحيفة واشنطن بوست، في نسختها الالكترونية، تشير الى قيام الرئيس اوباما باتخاذ بعض التدابير "لاسترضاء" السعودية "وتهدئة مخاوفها" في اللحظة الاخيرة قبل وصوله الرياض
قوامها "توسيع نطاق البرنامج السري لدعم وتدريب عناصر الجيش السوري الحر .. في قواعد ومعسكرات تنتشر في الاردن والشمال من الاراضي السعودية وقطر .. بمعدل 600 متدرب في الشهر، باشراف وكالة الاستخبارات المركزية .. وامداد القوة بصواريخ مضادة للطيران (م/ط)، "مانباد،" اذ تم تسليم الدفعة الاولى المكونة من خمس منصات اطلاق .. وعرض قطر بتمويل الخطة والذي قد تصل تكلفتها الى عدة ملايين من الدولارات .. كما سيرمي برنامج الامداد الموسع الى انشاء ممرات آمنة (داخل سورية) لايصال المساعدات الانسانية." واوضحت الصحيفة ان "الرأي السائد ينطوي على قناعة بأنه من اجل التوصل الى تسوية ديبلوماسية للازمة السورية، من الضروري تصعيد المواجهة العسكرية .. وهو يشكل ارضية الموقف السعودي الذي يبدو ان اوباما لجأ اليه مضطرا.")
اما زيارة اوباما فطابعها المعلن هو "تهدئة الخواطر" الذي بات الوصف الادق لجولة الرئيس الاوروبية وتتويجها بلقاء رسمي في الرياض، بخلاف لقاءات القمة المعتادة بين اي دولتين على قاعدة اعلان "تعزيز العلاقات الثنائية وسبل التعاون المشترك." يذكر ايضا تخلف عدد من رؤساء دول الخليج اللقاء مع الرئيس الاميركي الذي ارادوه ثنائيا كل منهم على حدة بعيدا عن سيطرة ونفوذ الرياض، وهو رآه جماعيا بحضرة "الاخ الاكبر،" كما صرحت بذلك مستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي، سوزان رايس.
توقيت الزيارة جاء على خلفية "تحدي الرئيس الروسي لباراك اوباما،" كما وصفته صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" والاخفاقات المتعددة للاستراتيجية الاميركية في عدد من مناطق العالم، لا سيما في الوطن العربي، والنجاحات الميدانية المتتالية التي يحققها الجيش العربي السوري، وانخراط الدول الغربية في مفاوضات سياسية مع ايران حول ملفها النووي؛ على ضوء ما وصفته صحيفة "نيويورك تايمز" من مصادرها الموثوقة في دوائر صنع القرار بأن "الولايات المتحدة قررت تقليص دورها العسكري في المنطقة بعد حرب العراق." الأمر الذي جرى ترويجه اعلاميا "باستدارة الاستراتيجية الاميركية واولوياتها نحو آسيا" ومياهها المطلة على الصين وروسيا.
لم يعد سرا ما يخبئه المستقبل المجهول لمصير وراثة الحكم في الجزيرة العربية و"خشية الرياض من مصيرها" في الاولويات الأمنية الاميركية "لما سيترتب عليه من سياسات وتدابير جراء توقيع الاتفاق النووي مع ايران وانسحاب الولايات المتحدة من المنطقة." كما لم تعد تلك القراءة حبيسة التكهنات والتحاليل السياسية، فيما وصفته "نيويورك تايمز" بأنه "تحول (وجهة) المسارات" السياسية الاميركية، وتنامي شعور القلق داخل الاسرة الحاكمة "وحاجتها للانفصال وانتهاج سياسة مختلفة" عن التبعية لاميركا في الملفات الاقليمية؛ فضلا عن مخاوف الرياض المعلنة من التهديدات الماثلة لمصير النظم والحكومات العربية "المؤيدة للغرب." صحيفة "الغارديان" البريطانية اطلقت وصف "الخلاف العدائي" على العلاقة بين الرياض وواشنطن.
عديدة هي مصادر القلق داخل الاسرة الحاكمة في الرياض من اميركا، سيما وان ما توخته من نتائج عن "الربيع العربي" أتت بغير ما تشتهيه السفن. وشكل دعم الولايات المتحدة لتنظيم الاخوان المسلمين وصعودهم مبكرا في مصر احد مصادر المخاوف الخليجية بشكل عام، على الرغم من رعاية الرياض تاريخيا لتنظيم الاخوان لمحاربة تجذر القومية العربية ومسيرة القائد الخالد عبد الناصر نحو التخلص من التبعية الاجنبية. كما ترسخت المخاوف ومشاعر القلق من واشنطن لعدم وفائها بوعودها لدول الخليج العربي بانها عازمة على شن حرب على سورية، وتراجع القوى الحليفة للسعودية من متطرفين وتكفيريين ورهانها على تشكيل قطب محلي يوازي الدولة السورية لتقسيمها والتحكم بسيادتها. وكذلك الامر لاخفاق الولايات المتحدة تحجيم واحتواء ايران وتقليص برنامجها النووي، الامر الذي فسره زعماء الرياض والدول الخليجية الاخرى بأنه "رضوخ" الرئيس اوباما لايران واستمرارها في تطوير برنامجها النووي.
مسؤول الملف السوري (السابق) في الاسرة الحاكمة في الرياض، الامير بندر بن سلطان، صرح علانية نية دائرة صنع القرار وعزمها على "اتخاذ تحول اساسي" في مجمل العلاقات التي تربطها بالولايات المتحدة، تعبيرا عن الأرق الداخلي ورفض حالة "السكون وعدم اتخاذ المبادرة" اميركيا حيال سورية. وسمع الاميركيون مرارا عدة ترديد "امراء" الاسرة الحاكمة بأن "الولايات المتحدة لا يعوّل عليها .. وسيتم طرق ابواب اخرى بديلة بغية تعزيز امنها." ونقلت صحف بريطانية عن المدير السابق لجهاز الاستخبارات السعودية، تركي الفيصل، قوله ان سياسة الرئيس اوباما في سورية "يرثى لها؛" والاتفاق حول ترسانة سورية من الاسلحة الكيميائية "غدر صارخ" ويعزز بقاء الرئيس بشار الاسد في موقعه.
تواترت تعبيرات غضب الرياض في وسائل الاعلام المختلفة، ونقلت وكالة "رويترز" للانباء عن الامير بندر قوله ان "السعودية غير راغبة لتجد نفسها في وضع يحتم عليها الاعتماد" حصرا على الآخر، وانه "يتطلع لتقليص النشاطات اليومية المشتركة مع الولايات المتحدة،" على خلفية احجامها عن التدخل في سورية، ورفع "دفء علاقاتها مع ايران .."
في سياق المعارضة السورية افادت صحيفة "وول ستريت جورنال،" 28 آذار الجاري، عن لقاء عقده المعارض السوري هادي البحرة مع "اعضاء مجلس الأمن القومي وممثلين من الكونغرس،" بحث فيه مسألة تزويد اميركا قوات المعارضة المسلحة باسلحة متطورة مضادة للطائرات والمدرعات (مانباد)؛ تلتها زيارة وزير الدفاع السعودي، سلمان بن سلطان، التقى فيها الاسبوع المنصرم مع مدير وكالة الاستخبارات المركزية، جون برينان، ووزير الدفاع الاميركي، تشاك هيغل، للبت في تسليح المعارضة السورية تمهد للزيارة الرسمية للرئيس اوباما للرياض.
واضافت الصحيفة ان شحنة معتبرة من الاسلحة المضادة للطيران والدروع، دفعت ثمنها السعودية تتواجد في مخازن عدة منتشرة على الاراضي الاردنية بانتظار "موافقة اميركية" لتسليمها لقوى المعارضة المسلحة؛ مع اقرار "الرياض بعدم قدرة المعارضة تحقيق انتصار" في الميدان، وادراكها ان تعزيز القدرة الدفاعية، لا سيما المضادة للطيران، سيقوي موقعها التفاوضي في المرحلة المقبلة.
مسألة الطاقة وتراجع مكانة مخزونات النفط في الجزيرة العربية، نظرا للاكتشافات الحديثة واستخدام تقنية تسييل النفط الصخري، شكلت بعدا اضافيا للمحطات الخلافية بين الرياض وواشنطن، وخشية الاولى من تقلص اعتماد اميركا والغرب عموما عليها في مراحل الانتاج والتسويق لموارد الطاقة، والذي سيترجم سياسيا ايضا. اعتادت الرياض على فرادة مكانتها في الاستراتيجية الاميركية، خاصة بعد انهيار نظام الشاه التي وصفها وزير الخارجية الاسبق هنري كيسنجر بأن الطرفين لديهما مصالح استراتيجية مشتركة، وسعي الرياض الحثيث لتبوأ موقع "الحليف الاساسي" لاميركا في المنطقة. وعليه، تتعاظم مخاوف الرياض ودول الخليج الاخرى من اي بوادر انتعاش في العلاقات الاميركية مع ايران والتي ستتم على حسابها ومكانتها ايضا، كما تعتقد.
ابتعاد السياسة السعودية عن الرعاية الاميركية
اكتشفت الرياض متأخرة ان تبعيتها ودورانها في فلك السياسة الاميركية قلص خياراتها في زمن الازمة الراهنة، رغم طرقها ابواب عدة دول كبرى لدعم مسافة ابتعادها عن املاءات السياسة الاميركية.
الساحة السورية باتت الشغل الشاغل لسياسة الاسرة الحاكمة، بعد تراجع دور قطر في الازمة وليس انهاؤه. لعل من أهم الاسباب وراء ذلك سعيها لمنافسة ايران على الموقع الاول في منطقة الخليج العربي، فضلا عن عدائها التاريخي المتأصل للقومية العربية وتعبيراتها في سياسة الكيان السوري الرسمي خاصة معاداته للكيان الصهيوني في فلسطين. يضاف لذلك بالطبع المنافسة السعودية لما تعتقده سعي ايران للسيطرة على لبنان كساحة صراع ونفوذ، وعداء الاولى للانتصار العسكري الذي سجله حزب الله على العدوان "الاسرائيلي" عام 2006.
في خطوة نادرة، نشرت الاسرة السعودية قواتها المسلحة، خارج اراضيها، في البحرين لضمان سيطرتها على الحكومات الموالية، بالاضافة الى توفير الدعم المادي والعسكري الهائل لحركات "الربيع العربي،" وخشيتها من انفراط عقد الاخوان المسلمين وخروجهم من سيطرة عباءتها مما حفزها على دعم القوى المناهضة لحكم الرئيس المصري المعزول، محمد مرسي. تطلعت الرياض من وراء ذلك تحقيق هدفها الاوسع في "كبح النفوذ الايراني" في المنطقة.
سياسات الرياض الثابتة في التبعية للسياسة الاميركية حرمتها من ممارسة دور تستطيع فيه تشكيل تحالفات خاصة بها. السفير الاميركي الاسبق لدى الرياض، روبرت جوردان 2001-2003، اشار الى اتكال الاسرة المالكة الكلي على الولايات المتحدة بانها "الوحيدة المؤهلة لحماية حقول نفط بلادها .. ولن نرى حلول يوم نراهم يقفزون خارج السرب."
الدور النامي لروسيا في ملفات المنطقة، لا سيما في سورية، ودعمها ايران في مفاعل بوشهر النووي ساهم في تعزيز طموحات ايران بدخولها نادي الدول النووية. تطلع الرياض لنسج علاقة اوثق او بديلة مع موسكو يعتريه عدد من العقبات يصعب تجاوزها، ليس اقلها ما يتردد من دعم الرياض لقوى الاسلام السياسي في دول القوقاز وشن عمليات مسلحة ضد الدولة الروسية؛ فضلا عن تميز الاقتصاد الروسي بوفرة مخزونه من النفط والغاز.
والامر سيان بالنسبة للصين التي وقفت الى جانب ايران ورفضت تأييد قرار الامم المتحدة لحظر الاسلحة عن ايران، عام 1980، وامتنعت ايضا عن التصويت لصالح تطبيق عقوبات اميركية ضد ايران في وقت لاحق. تتميز الصين بانها احد الموردين الاساسيين للصواريخ وتقنيتها الى ايران، والتي نشرتها الاخيرة في مضيق هرمز على الجانب الايراني كسلاح يهدد تدفق النفط "السعودي" عبر مياه الخليج، كما يعتقد.
من بين ما تبقى من الدول الكبرى تبرز فرنسا كأحد اكبر الاطراف المستفيدة من تأزم العلاقة الاميركية السعودية. وبادرت الرياض لفتح مجالات التنسيق مع باريس خاصة في سورية ولبنان والملف النووي الايراني، وضخت اموالا كبيرة للاستثمار في فرنسا واقتصادها على مدى زمن طويل. وشكلت تلك العلاقة احد العوامل الرئيسة لاتخاذ فرنسا موقفا متشددا حيال توقيع اتفاق نووي غربي مع ايران، الى جانب رعايتها للكيان الصهيوني وطموحاته في كافة الوطن العربي. برزت فرنسا ايضا كأحد مصدري السلاح الرئيسيين للمملكة السعودية منذ عدة عقود.
عرضت فرنسا قدراتها العسكرية لتوفير الحماية المطلوبة لمنابع النفط في الجزيرة العربية، مع ادراكها ان قوتها لا تضاهي التقنية والامكانيات الاميركية، وشكلت قوة عسكرية للتدخل السريع مهمتها دخول ارض الجزيرة العربية في اقصى سرعة ان تطلب الأمر. وجاءت تجربة تدخل القوات الفرنسية في عدد من الدول الافريقية لتعزز اطمئنان الاسرة الحاكمة على ترجمة الفرنسيين تدخلهم لصالح حلفائهم بصورة اسرع من الاميركيين.
علاقة بريطانيا مع كافة اركان الاسرة الحاكمة في الرياض تعود الى التاريخ البعيد وسابقة على كل ما عداها ولا تزال تحتفظ بعدد من المصالح الحيوية في المنطقة العربية، وتعود اهميتها الى تشكيلها قوة عسكرية سريعة الحركة لذات الغرض بالتدخل السريع لحماية مصالحا ومصالح حلفائها.
على الرغم من توفر تلك الميزات مجتمعة، لدى فرنسا وبريطانيا، الا ان الولايات المتحدة بامكانياتها العالية تتفوق على حلفائها الآخرين وتمكنها من تخطي مرحلة الخلاف والتباين السياسي الراهنة مع الحكومة السعودية؛ فضلا عن تبعية السياسة الخارجية للسعودية للسياسة الاميركية. اما امكانية اجراء تعديل في تحالفات الرياض الراهنة والابتعاد عن واشنطن، فمن المرجح الا تترك آثارا ضارة بالعلاقة الراهنة.
الرياض غير مهيئة حاليا للابتعاد عن السياسات الاميركية، بصرف النظر عن مدى اعتراضها وعدم رضاها منها، وربما تلجأ للمراهنة على عامل الزمن لتخطي الاضطرابات الحالية وتتطلع للرئيس الاميركي المقبل لاستمرار دعمها وسياساتها الاقليمية. في هذا الصدد ينبغي لفت الانتباه لعدد من تصريحات مسؤولي الاسرة السعودية، خاصة تركي الفيصل، الذين يحملون الرئيس اوباما شخصيا مسؤولية تباين السياسات، وليس لدائرة صنع القرار الاميركي سيما وتحتفظ اركان الاسرة الحاكمة بعلاقات وثيقة للغاية مع اقطاب الحزب الجمهوري وتعول على فوزه جولة الانتخابات الرئاسية المقبلة. كما نقل عن العاهل السعودي الملك عبدالله عدم ثقته بالرئيس اوباما واصفا الاخير "بالتردد" في سياسته حيال سورية.
"تحول مسارات" الاستراتيجية الاميركية لا تشي بأي تعديل قد يتخذه الرئيس اوباما على مسار سياسته الشرق اوسطية، والذي اثبتت سيرته الرئاسية ميله للتمسك بسياساته المعلنة، في بعدها الايديولوجي والعقائدي، بصرف النظر عن نواقصها التي تثبت تطورات الاحداث بطلانها – كما تجلى في مواقفه وتصريحاته حول اوكرانيا، وبرنامج الرعاية الصحية الشامل، اوباماكير.
وانطلاقا من ارضية هذا الفهم، يعتقد بعض عقلاء السياسة والرأي الحصيف ان مصلحة الاسرة السعودية تقتضي التريث وانتظار نهاية الولاية الرئاسية الحالية للرئيس اوباما المتخمة بالثغرات والاخفاقات وعدم رضى الناخب الاميركي عن مسارها، والمراهنة على عدم تقييد حركة الرئيس المقبل بارث الرئيس اوباما.
من المرجح استمرار سلوك السياسة السعودية الناحية الصدامية مع الدول الاقليمية الاخرى، وسعيها لجني مكاسب استثماراتها في القوى التكفيرية والمتطرفة، لا سيما في سورية، والمضي ايضا في معاداة ايران والسعي لتشكيل تحالفات وتجمعات اقليمية تخدم تلك الاهداف. لذا ستجنح لتكثيف علاقاتها مع بعض القوى الاوروبية لتأييد معارضتها لايران بشكل خاص، بالتوازي مع تحركاتها المنسقة، خلف الكواليس، مع "اسرائيل" ومناهضتها لكل تعبيرات القومية العربية كما كان الرهان عليها منذ بدء عقد الخمسينيات من القرن الماضي.
الاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار تصب في عكس اهداف السياسة الاقليمية للحفاظ على التقسيمات الراهنة. ولذا من المرجح ان تظهر السياسة "السعودية" بعض تجليات الاستقرار في الاقليم، حفاظا على مستقبل الاسرة الحاكمة واستمرار نفوذها المالي والمصرفي لتحقيق اهدافها السياسية، ولو تطلب الأمر بعض الاستدارة عن المألوف، كما يجري في دعمها الراهن لمصر التي بدون ترويضها ستتعثر "السيطرة السعودية" اقليميا وما سيترتب عليها من انعكاسات سلبية لها على المستوى الدولي.
المصدر: مركز الدراسات الأمريكية العربية