حنين إلى الإمبريالية
مرة أخرى تظهر الولايات المتحدة بمظهر القائد المتخاذل.
الدولة العظمى التي تقود العالم الغربي لأكثر من ثلاثة أرباع القرن تعاقب روسيا على فعلتها في أوكرانيا بحرمان بعض قادة موسكو من زيارتها وبفرض قيود على حركة رؤوس أموالهم في الخارج. مرة أخرى تقف أوروبا الغربية موقف الحيرة والتردد، فلا تجرؤ مجتمعة على اتخاذ قرارات ضد روسيا تتجاوز بها القرارات الأميركية، ولا تستطيع منفردة أن تتحمل مجرد احتمال أن تغضب روسيا فتقطع عنها الغاز، أو ترفع تكلفة وصوله إليها. أوروبا، هذه الكلمة المثيرة بسحرها وتاريخها ومآسيها عبر القرون، لم يتوصل قادتها بعد إلى تعريف واضح لمعناها ومحتواها.
ارتبطت الكلمة في قرون سابقة بسير إمبراطورياتها والصراعات بينها، وارتبطت سياسيا ومنذ نشأة الاتحاد الأوروبي، بقرارات وسياسات تتخذ في كل من لندن وباريس. تعمدت ألمانيا أن تترك لبريطانيا وفرنسا مسؤولية نشر الوهم بوحدة القارة وفشلتا، فتدخلت داعية للوحدة النقدية ومتحملة تكلفة هائلة في سبيل إقامة «أوروبا الموحدة». دخلت تجربة إنقاذ أوروبا من الإفلاس الاقتصادي في العام 2008 ونجحت في تفادي سقوط الفكرة وكان الثمن باهظا. وعندما انسحبت كل من بريطانيا وفرنسا من موقعي القيادة داخل الاتحاد الأوروبي، تقدمت خطوات نحو القيادة، لا لتملأ الفراغ الناجم عن غيابهما أو عن عجزهما، ولكن لتمنع انفراط الاتحاد. تقدمت أيضا لسبب أهم بالنسبة للنظام الدولي منه بالنسبة للنظام الأوروبي، يتصل بمنع الولايات المتحدة من جر أوروبا إلى كوارث وحروب لا ناقة للقارة فيها ولا جمل.
بهدوء وحذر، ولكن بجهد ملموس، تدخلت ألمانيا لمنع الرئيس بوش من شن الحرب ضد العراق، وهي الحرب التي أذنت، إلى جانب أشياء أخرى، بإعلان نهاية مشاركة بريطانيا في قيادة أوروبا الغربية، وربما عضويتها في الاتحاد الأوروبي. وتدخلت لتقنع بريطانيا وفرنسا بعدم التورط في أحداث ليبيا بعد الثورة، ولم تقتنعا. فبقيت ليبيا الجديدة شاهدة على عمق الجريمة التي ارتكبتها الدولتان بحماية الأمم المتحدة و«حلف الأطلسي».
تدخلت أيضا، بالهدوء والحذر نفسيهما، لتحول دون جرجرة أوروبا في الوحل السوري، لكن تدخلها لم يطرح بديلا ينقذ سوريا وشعبها من مأساة لن يغفر التاريخ للكثيرين، عربا وغير عرب، أدوراهم فيها.
غير معروف بالوضوح الكافي الدور الذي تلعبه ألمانيا حاليا في الأزمة الأوكرانية. أوكرانيا تعنى الكثير لألمانيا، فالعلاقة التاريخية والموقع الإستراتيجي وحساسية علاقة أوكرانيا بروسيا، كلها عناصر تجعل ألمانيا حريصة على وقف تصعيد التوتر وتهدئة غضب موسكو وتبريد أعصاب شياطين الحرب الباردة في الولايات المتحدة، والانتباه بكل قوة لتحركات التيارات النازية والقومية المتشددة في ألمانيا كما في غيرها من أقطار وسط أوروبا. كما تجعلها أشد انتباها لمشاعر الخوف لدى الأقليات العرقية، وبخاصة الروسية، المنتشرة في دول الجوار الروسي، خاصة في دول البلطيق ومولدوفا وأوكرانيا وجورجيا. هذه العناصر مجتمعة ومنفردة تسببت في أزمنة سابقة في إثارة حروب بدأت محلية وانتهت قارية أو عالمية.
تركيزي في هذا المقال على ألمانيا لا يعني أنني أتوقع من السيدة ميركل أن تنهض مرة واحدة وتخطو خطوة واسعة نحو احتلال موقع قيادة دول الغرب في مواجهة مصيرية مع روسيا. لا اتوقع من جانب ألمانيا تطورا من هذا النوع أو على هذا المستوى، ولكني أشعر أن اللحظة الراهنة في العلاقات بين الغرب وروسيا «لحظة ألمانية» بالضرورة.
قليلون في الصفوة الحاكمة في روسيا، وأقل منهم هنا في العالم العربي وفي إيران والصين، يعتقدون أنه بقى لفرنسا أو بريطانــيا دور تلعبه في أزمة دولية معقدة، مثل الأزمة الأوكرانيـة أو الأزمة السورية. آخرون، ربما أقل عددا، أدركوا المدى الذي انحدرت إليه السياسة الخارجية الأميركية. وبتعبير أكثر دقة، هناك عــدد أكــبر من الناس في أنحاء كثــيرة من العالم صار يصدق ما يتردد أميركيا عن «تفضيلات» الرئيس الأميركي في السياسة الخارجية، ونوايا الابتــعاد، بكل الطرق الممكنة، عن مصادر الاشتــباك المســلح أو بؤر الأزمات الحادة. قد يكون غرضه الاستعداد للانتقال بكثافة وتركيز إلى الشرق البعيد حيث المستقبل يصنع على نيران متعــددة ولكــن هادئة. وقد يكون غرضه التدرج نحو صيــغة أميركية أكثر تناسبا مع حقيقة قدراتها الراهنة والمتاحة.
في إطار هذا الفهم، أستطيع ان أقدر حساسية المفاوضات التي سوف تُجرى في الرياض بين العاهل السعودي والرئيس الأميركي، وأتوقع نوعا من العتاب المتبادل بين الطرفين. فالموقف الأمــيركي من احتلال شبه جزيرة القرم ثم ضمها إلى روسيا دليل قوي على تساهل إدارة الرئيس أوباما في التعامل مع دول تهدد «الوضع القائم « وتتجاوز الأعراف الدولية. من ناحية أخرى، تجد السعودية نفسها في صف واحد مع دول مثل روسيا والصين وإيران، تتعرض جميعها لتدخل أميــركي في مجالات حقوق الإنسان ومسائل داخليــة، وتجد بين مواطنيها ونخبتـها الحاكـمة من يتعــاطف مع روسيا في هذا الشأن، بل لعلها تكتشف أنه لا ضرر يهدد الحكم فيها يمكن أن يأتيها من الصين أو من روسيا، على عكس تيقنها من أن معظم الضرر الواقع عليها أتاها من أميركا وحلفائها في الغرب.
على الجانب الآخر، يشعر الأميركيون أن السعودية مقبلة على فترة عصيبة، فالنظام العربي الذي سلمها مقاليد قيادته منفردة بعد أن تنحت مصر لأسباب معروفة، يمر بمرحلة صعبة لغياب بوصلة ومشروع من أي نوع أو اتجاه. والنظام الفرعي الخليجي يعاني من الانقسامات وسوء الفهم. أضف إلى هذه الأسباب المشكلات الواقعة والمتوقعة في إقليم الشام والعراق وتركيا نتيجة استمرار تردي أوضاع سوريا، ونتيجة تفاقم عواقب سياسات خليجية طويلة الأمد لدعم تيارات دينية متطرفة.
من المفارقات المثيرة أنه في الوقت الذي تتأكد فيه عزيمة الرئيس أوباما على النأي بأميركا عن الأزمات والصراعات الخارجية، وفي الوقت الذي تتأكد فيه أكثر من أي زمن مضى رغبة حكومات في المنطقة في الاستعانة بحماية قوى خارجية، يخرج روبرت كابلان، عالم السياسة المعروف بميوله اليمينية القوية، بدعوة صريحة إلى بذل الجهد لاستعادة «النموذج الإمبريالي» نظاما للحكم تتبناه الدول العظمى لضمان السلم الدولي وحماية للأقليات. يعتقد كابلان أن الأقليات في أوروبا شهدت عصرها الذهبي في زمن الإمبراطوريات الكبرى ومنها الإمبراطورية العثمانية، وأن التوازن الإمبراطوري كان كفيلا بتحقيق درجة مناسبة من الأمن والسلم الدوليين.
روسيا، في رأي كابلان، تمارس سياسة «امبراطورية» بغزوها أجزاء من أوكرانيا وسعيها لفرض سيادتها على دول وأقاليــم أخرى في جوارها الإقليمي. وأميركا في رأيه، الدولة الإمبريالية بامتياز، تتخلى الآن عن تقاليدها الإمبراطورية. لا أحد بين المؤرخين العظام أنكر أن للتوسع الإمبريالي الأميركي الفضل فيما وصلت إليه أميركا من قوة، وما تحقق للعــالم من أمن وسلام في ظل هيمنتها «الإمبراطورية». هذه الإمبراطورية، بحسب تحليله، يستحسن أن تعود.