الأصولية وأزمة "الإسلام العالِم"
يفصح ميلاد "الإسلام الحزبي" وصعوده عن أزمة عميقة في نظام اشتغال الإسلام العالِم (إسلام العلماء المرتبطين بالدولة) ومؤسساته التعليمية والعلمية والإفتائية.
وإذا كان من مظاهر هذه الأزمة أن جماعات "الإسلام النضالي" أعلنت، منذ زمن طويل، تمردها على مؤسسات الإسلام العالِم، وعالنَتها المعارضة، ولم تتوقف عن القدح فيها، والتشنيع على وظائفها، واتهامها بممالأة "السلطة الباغية" والتسويغ لطغيانها . . إلخ، فإن هذا التمرد ليس، في حساب الأشياء إلا إحدى نتائج الخلل الذي دبّ إلى المؤسسة العلمية الدينية الرسمية، وأعجزها عن الاستمرار في أداء وظائفها التي كانت تنهض بها في "إدارة الشأن الديني"، بوصفها الجسم الاجتماعي الموكول إليه القيام بذلك على وجه الحصر سواء من قبل الدولة والسلطة الحاكمة أو من قبل المجتمع .
الصلة بين أزمة الإسلام العالِم وصعود "الإسلام الحزبي" بينة من وجوه عدة، قد يكون أظهرها - اليوم - جنوح الحركات الإسلامية الحزبية لوراثة مؤسسات العلماء التقليديين في "تمثيل" الإسلام والنطق باسمه . وهو مسعى خاضت فيه تلك الحركات، وتخوض، على قاعدة القول إن المؤسسات تلك استنفدت مبررات وجودها بإخضاعها الإسلام للسلطة، وتسخيره لخدمة أهدافها، والانحراف به عن جادة الشرع وتعاليمه، وهي، في ذلك المسعى، لم تكن تخوض في تشويه سمعة "المؤسسات الدينية" التقليدية الرسمية، فحسب، وإنما في سرقة أتباعها وكسب جمهور المسلمين (المتعلمين خاصة)، ممن لم يعودوا يبدون الثقة بوظائف تلك المؤسسات، ولا بأهلية القائمين عليها .
ليس جسم العلماء التقليدي هدفاً لقوى "الإسلام الحزبي" إلا بما هو رديف للسلطة، فالغاية من منازعته دوره إنما هي منازعة السلطة/ الدولة احتكارها الرأسمال الديني، والرغبة في نزعه وانتزاعه منها، وحيازته أو فرض التسليم لها (لقوى "الإسلام الحزبي") بالشراكة في "تمثيله" والتحدث باسمه، وبهذا المعنى، فإن معركة "الإسلام الحزبي" مع الإسلام العالِم ليست معركة فكرية أو فقهية، بل معركة سياسية بالتعريف . إنها ليست فكرية - فقهية لأن قوى "الإسلام الحزبي" ليست مؤهلة علمياً لخوضها، فحسب، إنما لأن المعرفة ليست موضوعها أصلاً، وإنما موضوعها الوظيفة السياسية للدين، وأين ينبغي أن تصرف: لصالح السلطة والدولة، كما يفعل العلماء التقليديون، أم لصالح الشعب والمجتمع: كما تدعي قوى "الإسلام الحزبي" أنها ستنهض بأمره؟
لم يكن "الإسلام الحزبي" أول خصوم "الإسلام العالم"، فقد خاض هذا جولات طوالاً من الصراع الفكري الطاحن مع الإسلام الصوفي كنص، ومعه كمؤسسات طرقية، لم ينظر العلماء التقليديون بعين الرضا إلى التصوف والمتصوفة، يوماً ما، لسبب خلفيتهم الفقهية التي ترى في النص الصوفي هرطقة وإحداثاً في الدين، وتاريخ الصراع بين الفقهاء والصوفية معروف، ومعروفة قضاياه وإشكالاته لدى الدارسين النصّ والتأويل، حدود التأويل والعلاقة باللغة . .) . لكن الفصول الأشدّ من ذلك الصراع كانت بين الفقهاء والطرق الصوفية، منذ القرن السادس عشر، وزادها اشتعالاً أن تمأسس التصوف، وصيرورته إلى طرق وزوايا، أفضى به إلى الصيرورة قوة سياسية تزاحم الدولة على نفوذها وسلطانها (خاصة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) . ولما كان الفقهاء مرتبطين بالدولة وكانوا ألسنة لها، تذب عنها، كان عليهم أن يتصدوا للطرقية وأفكارها بما أوتوا من أسباب .
غير أن معركتهم، اليوم، مع "الإسلام الحزبي" مختلفة، فهم يشتركون معه في الأرضية العَقدية - الفقهية عينها، والخلاف معه يجري على الموقف من السلطة لا على شرعية خطابه في الدين، وأقصى ما يستطيع الفقهاء اتهام "الإسلام الحربي" به هو الغلو والتطرف لا الكفر والخروج عن الملة (كما كانوا يفعلون مع بعض مشايخ الطرقية) . وإلى ذلك فإنهم يعانون عزلة اجتماعية نتيجة فقدانهم الصدقية وسط جمهور جديد من المتعلمين بات جيشاً احتياطياً لقوى "الإسلام الحزبي"، وبالتالي يشعرون أن البساط يُسحب من تحت أقدامهم شيئاً فشيئاً، على الرغم من التأييد الذي يلقونه، اليوم، من الدولة ومن القوى المدنية الحديثة .
والحق أنه لولا أزمة "المؤسسة الدينية" التقليدية الرسمية، والضعف الشديد في أدائها، لما كان يسع قوى "الإسلام الحزبي" أن تحرز كل هذا النفوذ الذي صار لها في أوساط الجمهور، الذي يكرّسها "ناطقاً" جديداً باسم الإسلام في نظر أتباعها، وليس من سبيل إلى تجديد دور الإسلام العالِم إلا بتجديد "العلم الديني" وتطوير منظومته .
المصدر: الخليج