تصفية «الحديد والصلب» المصرية تشعل حراكاً نقابياً وسياسياً ضدّ مسلسل التدمير الليبرالي
ما زالت قضية قرار تصفية أضخم شركة للحديد والصلب في مصر والشرق الأوسط، والتخطيط لخصخصتها، تتفاعل في الأوساط العمالية والنقابية والسياسية المصرية. وما زال اعتصام عمال الشركة مستمراً داخلها لأكثر من عشرة أيام على التوالي. وإضافة إلى كون القرار يهدد مباشرةً وظائف ومعيشة آلاف العمّال المصريّين وعائلاتهم ويشكّل تصعيداً جديداً لهجوم نهج السياسات الليبرالية الجديدة والخصخصة والارتهان لشروط مؤسسات «إجماع واشنطن» كصندوق النقد الدولي، والتي انطلقت وتسارعت في مصر منذ عهد السادات، فإن له أيضاً بعداً وطنياً ورمزياً عميقاً في الذاكرة الشعبية الوطنية، نظراً لتاريخ الشركة، التي بدأ التفكير بإنشائها منذ العام 1932 بعد توليد الكهرباء من خزان أسوان، وتأسست في حزيران 1954 بعهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لتساهم في مواجهة مصر للتحديات المختلفة بدءاً من بناء السد العالي، وصمود البلاد عقب هزيمة حزيران 1967 وحرب الاستنزاف والاستعداد لحرب تشرين الأول 1973 وسدّ احتياجات السوق المصري من المنتجات الحديدية.
تم إعلان قرار تصفية شركة «الحديد والصلب» التابعة للشركة القابضة للصناعات المعدنية، التابعة بدورها لوزارة قطاع الأعمال العام، عقب الجمعية العامة غير العادية للشركة، والتي عُقدت بتاريخ 11 كانون الثاني 2021. وقررت «تصفية مصنع حلوان، وتأسيس شركة للمناجم»، و«تقسيم الشركة أفقياً». ومن المتوقَّع أن يدخل القطاع الخاص شريكاً في تشغيلها خلال المرحلة المقبلة، وصرف «تعويضات» للعمال.
وتشغّل الشركة أكثر من 7300 عامل (تقلص عددهم كثيراً بعد أن كان 26000) ومساحة منشآتها 2500 فدان، أكبرها في مدينة «التبين» في حلوان. وهي ذات بعد استراتيجي، لأنها الوحيدة التي تنفرد بإنتاج الحديد الزهر من الخامات المحلية من مناجم الواحات البحرية، وصولاً حتى تحويله إلى منتج نهائي قادر على المنافسة في الأسواق العالمية.
وتُجمِعُ كل الجهات المنتقدة للتصفية على أنّ الشركة تمتلك كل مقومات الاستمرار والنجاح في مصر والمنطقة، ولكن تمّ تخسيرها وإفشالُها بسبب الفساد وسوء الإدارة بشكل متراكم. وتكبدت الشركة، وفق تقارير، خلال العام الماضي (2020)، خسائر كبيرة وصلت إلى 887.37 مليون جنيه، وفي العام الذي سبقه (2019) خسرت أيضاً ما يناهز 1.52 مليار جنيه، بينما حققت مبيعات بلغت 1.08 مليار جنيه مقابل 1.24 مليار جنيه في العام الذي سبقه.
أما عن ردود الفعل، فسرعان ما ظهرت من عمّال الشركة أنفسهم، فبعد نحو أسبوع من إعلان القرار، ووفقاً لما قالته «دار الخدمات النقابية والعمالية»، فقد تظاهر نحو 4000 عامل صبيحة يوم الأحد 17 كانون الثاني أمام مقر الشركة القابضة للصناعات الهندسية بميدان سيمون بوليفار في «غاردن سيتى»، مرددين هتافات منها: «على جثتنا نبيع شركتنا... على جثتنا نسيب شركتنا»، و«مش هنسيبها للحرامية»، و«دي شركتنا وروحنا ليها»، و«صوت العامل طالع طالع... من الشوارع والمصانع». ورافعين قائمة من المطالب: إقالة رئيس الشركة القابضة ورئيس مجلس إدارة شركة الحديد والصلب، وصرف مكافأة الإنتاج بواقع 16 شهراً كما أقرتها الجمعية العمومية للشركة، وحل اللجنة النقابية، وإحالة ملفات الفساد داخل الشركة إلى النيابة العامة. وبينما شارك قسم من العمال في التظاهرة استمر بقية العمال بتدوير عجلة الإنتاج في المصنع. وبالتزامن انتشرت مجموعة من قوات الأمن عند البوابة الفاصلة بين الشركة ومساكن العمال لمنع انضمام المزيد إلى الاعتصام.
كما عقد مجلس إدارة الاتحاد العام لنقابات عمال مصر اجتماعاً طارئاً يوم الثلاثاء 19 كانون الثاني، وأصدر بياناً أكد فيه رفضه لقرار التصفية، مخاطباً الرئيس عبد الفتاح السيسي «بالتدخل العاجل» لإنقاذ الشركة من التصفية، لافتاً إلى أنّ عملية التنمية «تحتاج الى قطاع عام قوي عن طريق تطويره وليس هدمه». وخرج اجتماع الاتحاد بـ 11 قراراً هي باختصار: «رفض قرار التصفية»، «التمسك بحقوق ومطالب العمال المشروعة»، «تشكيل لجنة وطنية متخصصة» للبحث في قرارات كهذه وتداعياتها، «النظر في المشروع المقدم من الشركة الصينية أسوة بما تم في مصانع الدلتا للصلب وهو نموذج أثبت نجاحه على أرض الواقع وانتشل [تلك] الشركة من أزمتها»، التأكيد على أهمية الحفاظ على ثروة الشركة وريادتها في الشرق الأوسط، الحفاظ على المقومات الفنية والإنتاجية الحالية للشركة ومنها «محطات الأكسجين التي تُورَّد لوزارة الصحة في ظل أزمة كورونا»، الحفاظ على الكادر البشري الهندسي والفني، «الكشف عن الدراسة التي مُنِعت من العرض على الجمعية العمومية» والتي احتوت خياراتٍ لإنقاذ الشركة دون تصفيتها، «التأكيد على رفض كل السياسات الممنهجة لتصفية وبيع شركات قطاع الأعمال العام وتشريد عمالها»، «تشكيل لجنة طارئة تبحث في التشريعات العمالية الحالية» بما يضمن حقوقهم، «دعوة رئيس مجلس الوزراء، ووزير قطاع الأعمال العام، والوزراء والجهات المعنية» إلى زيارة الشركة نفسها والاتحاد العام، للاطلاع على الواقع على الأرض، «تكليف الإدارة القانونية في الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، برفع دعوى قضائية عاجلة» لوقف قرار التصفية.
وبالتوازي أجرت عدة أحزاب سياسية ومنظمات مشاورات عن الموضوع، منها حزب الكرامة، والاشتراكي، والشيوعي المصري، والدستور، والناصري، والوفاق، والمحافظين، والتحالف الشعبي الاشتراكي، ودار الخدمات النقابية، والمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ومبادرة الاكتتاب الشعبي.
وأدان الحزب «الاشتراكي المصري» في بيان له القرار مشدداً على أنّ «التفريط في هذا الصرح الكبير جريمة حقيقية سيدفع ثمنها الباهظ شعبنا ووطننا». مذكّراً بأنه «لولا وجود هذا المُجَمَّع الصناعي، ما كان مُمكناً لقواتنا المُسلَّحة بناء السد العالي، ولا حائط الصواريخ الأسطوري إبّان حرب الاستنزاف، أو توفير الإمدادات التقنية والعسكرية التي ساهمت في العبور الناجح وتدمير خط بارليف عام 1973 فضلاً عن أن غيابه سيهز ركائز الاقتصاد المصري». وطالب بالاستماع إلى كل الأصوات الوطنية المُخلصة التي أدانت القرار وطرحت بدائل متاحة، بدلاً من «الإمعان في تحدي المشاعر الشعبية، وتجاهُل الرفض الجماهيري الواسع والصريح لهدم هذا الصرح التاريخي على هذا النحو غير المسؤول». واعتبر البيان التصفية «استجابةً لإملاءات صندوق النقد الدولي، وشروط المؤسسات المالية الأخرى، وكنتيجة مُتوقَّعة لاستفحال سياسات الاقتراض الخارجي الفادحة، التي كبَّلت مصر بالديون، وفرضت على الحكومة التخلِّي عن أحد أهم وأرسخ المؤسسات الصناعية الاستراتيجية المصرية». وأضاف بأنه هذا يأتي بعد سلسلة مُمنهجة من إجراءات رفع تكاليف الإنتاج بشكل غير مبرر مما أدخل الشركة في «سباق غير عادل مع شركات خاصة منافسة، ومُدللة، تعمل في شروط أفضل، ورفضت كل عروض إعادة تأهيله التي تقدَّم بها العديد من الشركات الأجنبية: وبعضها كان ذا مزايا واضحة، ويُحقق فائدة مؤكدة لمصر، ويعيد هذا الصرح إلى سابق عهده دون تحميل الاقتصاد المصري تكاليف وأعباء هذه العملية»، في إشارة على ما يبدو للمشروعات الصينية التي ذكر بيان الاتحاد العام لنقابات العمال أعلاه مثالاً عن نجاحها مع مصانع الصلب في الدلتا.
وبدوره عبّر «الحزب العربي الديمقراطي الناصري» عن إدانته الشديدة ورفضه «لتصفية قلعة من قلاع الصناعة المصرية ورمز من رموز الإرادة والتحدي» وقال بيان الحزب إنه ينظر إلى القضية من وجهين غير منفصلين الأول: اقتصادي «باعتبار الشركة عاموداً رئيسياً من أعمدة التنمية المستقلة... وهو ما ثبت عملياً في مرحلة التحرر الوطني بقيادة الزعيم خالد الذكر جمال عبد الناصر، حيث قام القطاع العام بتأمين الصمود المصري في فترات الحرب والحصار ومقاومة الاستعمار... والثاني هو الوجه التاريخي والرمزي والمعنوي، باعتبار خصوصية الشركة ونشأتها وتزامن تطورها مع العدوان الثلاثي على مصر، وقد شكل إنشاؤها تحدياً وانتصاراً ومثالاً حياً على انتصار إرادة الشعوب والكفاح الوطني»، وتابع منتقداً «فشل سياسات وتوجهات الحكومة» مطالباً بمراجعتها فوراً، و«عدم الاعتماد على سياسات الريع والتي لن تقود إلا إلى مزيد من الاستدانة ووضع الاقتصاد المصري على حافة الهاوية» ومتضامناً مع العمال و«مناشداً الرئيس عبد الفتاح السيسي بالتدخل ووقف هذه القرارات الخطيرة باعتبارها قضية أمن قومي مصري تستدعى اجتماعاً لمجلس الدفاع الوطني»، وأعلن الحزب عن مضيه بخطوات قانونية لوقف القرار الجائر.
ومن جهته انتقد حزب «العيش والحرية» ـ تحت التأسيس ـ قرار التصفية في بيان قال فيه إن «النظام الحالي يستكمل المهمة» بعد تصفية شركة الإسمنت، وانتقد الخصخصة و«الزيادات المتتالية لأسعار الطاقة، وتفشيل خطط التطوير بزعم عدم توافر الموارد، وتجاهل العمرات الجسيمة لأفران الصهر، وإغراق السوق بالحديد المستورد الأرخص، لتعقبه سياسات أدت لتفريغ السوق وسيطرة الشركات الخاصة، وفى النهاية يتم تحقيق خسائر وصلت إلى نحو 8.2 مليار جنيه على النحو الوارد اليوم في طلب التصفية الذي وافقت عليه الجمعية العمومية». ونوّه بيانه إلى أنّ القرار جاء «في نفس الوقت الذي شهد اعتصام شركة مصر للألومنيوم، احتجاجاً على عدم صرف أي أرباح عن العام المالي المنصرم». لافتاً إلى أحد الأسباب المهمة وغير المبرَّرة لخسائر شركة الألومنيوم مما يجعل الأمر يتجلّى بوصفه تخسيراً متعمّداً، وعن سبق الإصرار والترصّد، لعدة شركات استراتيجية مشابهة، إذ أوضح البيان أنّه: «وفقاً للتقرير الشهري الدوري لموقع وود ماكينزي الأشهر عالمياً فإن شركة مصر للألومنيوم باتت تحصل على الكهرباء بسعر هو الأعلى عالمياً، فقد بلغ سعر الكيلو واط ساعة 7.2 سنت مقابل متوسط عالمي لا يزيد عن 3 سنت لكل كيلو واط، أي أن 4 سنت فرقاً فوق المتوسط المقبول عالمياً تكلف الشركة مصروفات سنوية إضافية تبلغ تقريباً 3.2 مليار جنيه سنوياً، فالشركة تسدد نحو 5.5 مليار جنيه سنوياً للكهرباء أي 458 مليون جنيه في الشهر، يعني أكثر من 15 مليون جنيه في اليوم الواحد»، وأضاف «سياسة رفع أسعار الطاقة يظل هو التحدي الأعظم للشركة. فالدولة لا تقبل بما تم طرحه في عديد من المطالبات والدراسات بربط سعر الطاقة بسعر بيع طن الألومنيوم في بورصة لندن، ولا تسمح لمصر للألومنيوم بامتلاك محطة توليد كهرباء خاصة بها أسوة بمصاهر الألومنيوم في الدول الخليجية».
كما تقاطعت أغلب البيانات المستنكرة بالتحذير من امتداد دومينو التصفية: «استمرار هذه السياسات يجعل معظم الشركات الصناعية العملاقة مثل مصر للألومنيوم بنجع حمادي والسبائك الحديدية في كوم أمبو والدلتا للصلب بشبر الخيمة إضافة إلى شركات الأسمدة والغزل والنسيج فريسة سهلة لمخلب التصفية وتشريد العمال»، وأنه تم بالفعل الشروع في «تصفية مجموعة مُهمة أخرى من الشركات الإنتاجية، منها مصنع سماد طلخا، وشركة مصر للغزل والنسيج بكفر الدوار، وشركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، وهناك قائمة مُعلنة لشركات وبنوك أخرى قيد التصفية».
ووصلت أزمة تصفية «الحديد والصلب» إلى أروقة البرلمان، فتقدَم عدد من النواب باستجواب لوزير قطاع الأعمال العام محذّرين من «مدى خطورة القرار على السلم الاجتماعي والاقتصاد المصري»، ومنتقدين إجراءات «التفشيل المتعمّد وتشريد العمال»، التي أوصلت الشركة إلى انخفاض إنتاجها إلى نحو «10% فقط من الطاقة التصميمية لها». وفي تصريح لموقع «بوابة البرلمان»، في 24 كانون الثاني، رفض أحمد مهني، وكيل لجنة القوى العاملة بمجلس النواب، تصريحات وزير قطاع الأعمال العام هشام توفيق، حول صرف تعويض بمبلغ 225 ألف جنيه مصري لكل عامل، موضحاً بأنّ المبلغ المذكور من الجنيهات «ميعملوش أي حاجة في هذا الزمن لأي عامل... ولا تكفي لأي شيء»، لافتاً إلى أنّ عدداً من العمال في أعمار شابة ومتوسطة وبالتالي «لسّه قدّامهم فترة كبيرة على المعاش».