«النظرية النقدية المعاصرة» وأزمة الرأسمالية
نيك بيمز نيك بيمز

«النظرية النقدية المعاصرة» وأزمة الرأسمالية

على مدى تاريخ الرأسمالية وأزماتها المتكررة، تمّ طرح الكثير من النظريات من قبل منظرين «يساريين» أكّدوا أنّ هذه الأزمات والعلل الاجتماعية التي تولدها يمكن تخفيفها، إن لم يكن إنهاؤها بالكامل، من خلال تغيير النظام النقدي دون المساس بأساس الإنتاج الرأسمالي نفسه.

 

وفي الوقت الذي يقدمون فيه أنفسهم بوصفهم «يساريين» و «تقدميين»، يدفعون نحو إصلاح النظام الرأسمالي. ويظهر لنا التاريخ بأنّه في أوقات الأزمات الكبرى يسعى هؤلاء لتحويل الطبقة العاملة عن برنامج الثورة الاشتراكية، في ذات الوقت الذي يقدمون فيه الأساس الإيديولوجي للقوى السياسية التي تدفع نحو حلول للأزمة مناهضة للثورة. تعدّ «نظرية النقود العصرية MMT» التي صاغتها ستيفاني كيلتون في كتابها «أسطورة العجز» آخر صيحات التعبير عن هذه الظاهرة. 

يعود الكفاح ضدّ هذه النزعات إلى أساس الاقتصاد السياسي الماركسي. في شتاء 1857-1858 وسط الأزمة الاقتصادية العالمية، كتب ماركس مسودة أولية لما سيصبح فيما بعد «رأس المال» الذي نشر في 1867. وصل عمله الأولي لنا على شكل «أساسيات نقد الاقتصاد السياسي Grundrisse»، والتي لها أهمية خاصة لفهم الـ MMT.

كانت نقطة البدء لدى ماركس هي تحليل النقود وتفنيد آراء الفوضوي الفرنسي برودون، في الوقت الذي كان برودون يعتبر فيه رائداً في التنظير الاشتراكي. بدأت المسودة بالاقتباس عن أحد مريدي برودون وهو ألفريد داريمون: «أصل الشرور هو الغلبة التي يخصصها الرأي بعناد لدور المعادن الثمينة في التداول والتبادل».

وفقاً للبرودونيين: يمكننا تخطي الآفة الاجتماعية للرأسمالية إن تمكنا من إزاحة الذهب وغيره من المعادن الثمينة عن وضعها كنقود وتقليصه إلى وضع سلع عادية. إن تمّ ذلك، يمكن إنهاء اللامساواة في التبادل بين رأس المال والعمالة واستعادة المساواة الطبيعية بين جميع أشكال العمالة.

شمل تفنيد ماركس في الجوهر على إظهار أنّ النقود لم تكن مجرّد أداة تمّ اختراعها بهدف تسهيل التبادل، بل نشأت من نظام إنتاج السلع نفسه؛ النظام الذي تشترك فيه عمالة الأفراد في الإنتاج لأجل السوق. كان على الإنتاج الاجتماعي أن يجد إجراءً مستقلاً ما. النقود كما شدد ماركس لا تأتي كنتيجة للاتفاق، بل تتطور من المجتمع المعتمد على تبادل السلع.

النقطة الرئيسية التي وضحها ماركس، من خلال تحليل مفصل للمفاهيم البرودونية، كان أنّ النقود لم تخلق الصراعات والتناقضات في المجتمع الرأسمالي، والتي اتخذت أشكالاً أكثر عنفاً عندما أصبحت قوة العمل سلعة على شكل عمل مأجور، بل بالأحرى «تطوّر التناقضات هو من يخلق القوة المتعالية للنقود كما يظهر».

كان هدف البرودونيين الخلاص من الشرور الاجتماعية للرأسمالية، والتي كان متزايدة تبعاً لأزماتها المتكررة، وذلك من خلال تغيير علاقات التوزيع والتداول التي تسهلها النقود، دون المساس بعلاقات الإنتاج الاجتماعية القائمة والمعتمدة على الإنتاج البضاعي.

هنا وجّه ماركس ما سمّاه السؤال الجوهري: «هل يمكن إجراء ثورة على علاقات الإنتاج الموجودة وعلاقات التوزيع التي تستجيب لها من خلال إحداث تغيير في أداة التداول؟» ثمّ تالياً: «هل يمكن إجراء هذا التحويل في التداول دون المساس بعلاقات الإنتاج الموجودة والعلاقات الاجتماعية المبنية عليها؟».

شريط مشروخ وتكرار الخطأ

كان مخطط برودون، القائم على استمرار الإنتاج البضاعي الذي يعدّ جوهر الاقتصاد الرأسمالي، مجرّد يوتوبيا. كان الأمر كما وصفه ماركس أشبه بإلغاء البابا مع إبقاء الكنيسة الكاثوليكية. وقد تمّ تكرار الآراء البرودونية بأشكال متعددة منذ ذلك الحين؛ ففي أثناء التزعزع الاجتماعي الذي أثّر في العمال والمزارعين الصغار في الولايات المتحدة في 1890 والذي أدى لبطالة بنسبة 25% في 1893، فاز وليام برايان بالمصادقة على ترشحه عن الحزب الديمقراطي في 1896 بوعده بإزالة «صليب الذهب» عن البشرية. قيل في حينه بأنّ معيار الذهب كان هو السبب في الانكماش وبوجوب تغيير النظام من خلال جعل الفضة جزءاً من أساساته، الأمر الذي من شأنه تعزيز العودة للازدهار الاقتصادي. 

أدت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة للرأسمالية العالمية في أعقاب الحرب العالمية الأولى إلى بروز عدد من الآراء التي زعمت بإمكانية تخفيف الأزمة من خلال إجراء تغييرات في أشكال التوزيع الاقتصادي والنظام النقدي. في عشرينيات القرن الماضي قدّم سي.اتش. دوغلاس نظرية الائتمان الاجتماعي. فبعد مقارنة الفجوة بين قيمة إنتاج مخرجات المصانع والمدفوعات التي تتم على شكل أجور وأرباح، اقترح دفع عائد وطني لتعويض هذا العجز. وجدت نظرية دوغلاس في الائتمان الاجتماعي ومفهومها عن الطلب غير الكافي تعبيرها في آراء كينز، وهو الذي أكد بأنّ مشاكل الاقتصاد الرأسمالي ناجمة عن عدم كفاية الطلب الفعال، الفجوة التي يجب سدها عبر الإنفاق الحكومي.

في العشرينيات كانت معظم العملات الكبيرة مرتبطة بالذهب – الأمر الذي رآه البعض بأنه مسؤول عن استمرار ظروف الكساد الاقتصادي. في 1924 قام الاقتصادي الألماني جورج فريدريك ناب بتقديم نظرية جديدة عن النقود. أكد أنّ المال لم ينشأ من إنتاج السلع وليس له أيّ قيمة متأصلة فيه، بل كان رمزاً أنشأته الحكومات كوسيلة لدفع الضرائب والالتزامات التي تفرضها. هذه النظرية المعروفة باسم الكارتالية «الرمزية Chartalism» هي أساس النظرية النقدية المعاصرة MMT.

جميع هذه النظريات، من الأحدث إلى الأقدم، خرجت في فترات الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ويستند أصحابها إلى موقف يرى بأنّ الأزمات ليس بسبب التناقضات المتأصلة في الرأسمالية والمتجذرة في الإنتاج البضاعي وتحويل قوة العمل إلى سلعة واستغلالها، وعليه يمكن تخطيها عبر تغيير السياسات الحكومية وتطوير نظام ائتمان ونقد جديد.

إنّها تهدف لحرف الطبقة العاملة عن إتمام المهمة التي فرضتها عليها هذه الأزمات – وهي القضاء على نمط الإنتاج الرأسمالي وتولي مهمة إعادة بناء الاقتصاد على أسس اشتراكية. بدلاً من ذلك، ووفقاً لهؤلاء المنظرين، فمهمة اليوم هي إقناع القوى التي يجب عليها التخلي عن نظرياتها الخاطئة واعتماد الحلول التي يقترحونها، وهي التي ستوفر أساساً للتوسع الرأسمالي وتجنب ضرورة الثورة الاجتماعية.

هل MMT ثوريّة؟

منذ البدء ادعت كليتون بأنّ الـ MMT تتحدى الوضع القائم «وتعطينا القوة لتخيل سياسة جديدة واقتصاد جديد»، وتمكننا من رؤية «أنّ عالماً آخر ممكن، عالماً يمكننا فيه تحمل تكلفة الاستثمار في الرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية المرنة».

ليس هناك شكّ بقابلية تحقيق هذه الأشياء عبر اقتصاد اشتراكي مخطط يحشد عمل مليارات العمال لخدمة البشرية، لكنّه مستحيل التحقق في ظلّ الرأسمالية لأنّ ما تتجاهله آراء كليتون تماماً هو أنّ الاقتصاد الرأسمالي هو نظام اجتماعي بانقسامات طبقية لا يمكن التوفيق بينها، وليس مجرّد آلة.

وفقاً لكليتون فالأمراض الاجتماعية التي خلقتها الرأسمالية ليست ناجمة عن التناقضات الموضوعية، بل عن تفكير غير صائب. تؤكد كليتون بأنّ السياسات الاقتصادية التي تعطي الأولوية لحاجات البشر والمصلحة العامة ممكنة ضمن الرأسمالية لو أنّنا تخلينا عن «القيود المفروضة على الذات».

وهي ترى بأنّ هذه القيود مستمدة من الطريقة التي يتم النظر بها إلى الإنفاق الحكومي ومعادلته مع الإنفاق الأسري. فعلى الأسرة الحصول على النقود لتمويل نفقاتها وتحتاج لمعادلة ميزانيتها. بينما الحكومة هي مصدر المال ولا تخضع لمثل هذه القيود.

لا يمكن للأسر أن تخلق دولارات لتمويل نفقاتها، بينما يمكن للحكومة ذلك. يعني هذا بأنّ حدود الإنفاق التي تنطبق على الأسر لا تنطبق على حكومة ذات سيادة تصدر عملتها الخاصة. فالحكومة يمكنها دوماً تمويل نفقاتها عبر طباعة المزيد والمزيد من المال، أو ببساطة إنشائه عبر كبسة زر كمبيوتر في البنك الفدرالي الاحتياطي الذي يحول الأموال من البنك المركزي إلى حسابات بنكية أخرى.

التمييز بين مستخدمي النقود ومصدري النقود هو جوهر الـ MMT.

لكنّ الـ MMT لا ترى بأنّ لا حدود لهذا الإنفاق، لكنّ هذه الحدود لا تضعها القيود المالية. فهي تنشأ فقط عندما يتم استخدام جميع الموارد المتاحة للاقتصاد الحقيقي ويكون هناك المزيد من الطلب الناتج عن الإنفاق الحكومي الذي يمضي أبعد من القدرات الاقتصادية، وبالتالي يقود للتضخم. ولكن حتّى يحين ذلك الوقت هناك العديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وحتى البيئية مثل تغير المناخ، يمكن حلها.

النقطة الأولى التي يجب إيضاحها أنّ هذه الفرضية ليست فقط «أمريكا أولاً» بل هي «أمريكا فقط».

وزارة الخزانة تتمتع كما يبدو بقدرة غير محدودة على خلق المزيد من الدولارات بسبب الدور الذي يتمتع فيه الدولار كعملة احتياطية عالمية.

لكنّ كيلتون تدعي بأنّ بقية الدول بوصفها مصدرة لعملاتها الخاصة، ومن بينها بريطانيا وأستراليا وكندا، يمكنها فعل الشيء ذاته. كما تعرض رؤية للبلدان التي تملك سيادة نقدية ضعيفة أو غير موجودة بالمرة، مثل باناما وتونس واليونان وفنزويلا ...الخ.

حتّى الفحص المبدأي لهذا الرأي يظهر مدى خطئه؛ فعملات البلاد الأخرى لا تتمتع بذات الموقع الذي يتمتع به الدولار. مثال: لو قامت بريطانيا أو أستراليا بإصدار كمية لا محدودة من النقود ببساطة من أجل تلبية احتياجاتها الاجتماعية، فستجد نفسها بعد وقت قريب وقد انهارت قيمة عملتها في الأسواق العالمية، لتؤدي للتضخم وتقويض قدرتها على سداد الديون والمدفوعات المقومة بالدولار الأمريكي.

لكن حتّى عند الحديث عن الدور المميز للدولار الأمريكي، فهناك حدود لقدرة الفدرالي الاحتياطي على خلق الدولار، وهي الحدود الموجودة في طبيعة النقود نفسها.

إنّ إنتاج البضائع، وهو الأساس للنظام الرأسمالي، تقوم به كيانات خاصة من شركات وأفراد. لكن في ذات الوقت هو إنتاج اجتماعي. كلّ مجتمع عليه أن يحل مسألة كيفية تخصيص العمل الاجتماعي المتاح، وكيفية توزيع موارد العمالة المتاحة من أجل الاستمرار في كونه فاعلاً.

في مجتمع اشتراكي ستتم هذه المهمة عبر خطة واعية وتنظيم ديمقراطي. بينما في المجتمع الرأسمالي يتم هذا الأمر عبر السوق. يشمل هذا معادلة الأنواع المختلفة من العمالة الضرورية ليصبح المجتمع فاعلاً. في مجتمع الإنتاج البضاعي، حيث يكون العمل اجتماعياً ولكنّه يتم في ذات الوقت بشكل خاص، يتم تحقيق هذا التخصيص من خلال نظام القيم.

يتم تحديد قيمة كل سلعة من خلال مقدار العمل الضروري اجتماعياً المطلوب لإنتاجها. لكن هذه القيمة يجب أن تكتسب شكلاً مادياً مستقلاً، وهذا الشكل هو النقود. وكما صاغها ماركس: «النقود هي وقت العمل على شكل موضوع مجرّد، أو هو تجريد وقت العمل، وقت العمل بوصفه سلعة».

من خلال النقود يتم التعبير عن الرابطة الاجتماعية المجردة الموجودة بالفعل بين المنتجين الخاصين. كتب ماركس معلقاً على مقولة أنّ الناس يضعون ثقتهم في شيء هو النقود لأنّهم لا يؤمنون ببعضهم: «لكن لماذا يؤمن الناس في الشيء؟ وضوحاً لأنّ هذا الشيء هو تجريد للعلاقة بين الأشخاص، فهو قيمة تبادلية مجردة، والقيمة التبادلية ليست أكثر من علاقة بين النشاطات الإنتاجية للبشر».

ترجمة قاسيون

 عن: Modern Monetary Theory and the crisis of capitalism: Part one