«ومع ذلك، فإنها تدور»!
لا يعيش أعداء التيار الاشتراكي ولا موالو الولايات المتحدة أفضل حالاتهم اليوم، حيث ساعدت نتيجة الانتخابات الرئاسية في بوليفيا في تقويض واحدة من أهم الصور النمطية التي جرى زرعها في الوعي الشعبي العالمي: تلك الصورة حيث جماهير الهاربين يتوقون للتخلص من «جحيم القمع الاشتراكي» محاولين الدخول في «نعيم الديمقراطية والرفاه الرأسماليين».
قبل عامٍ من الآن، نفذّت الولايات المتحدة الأمريكية انقلاباً ناجزاً في بوليفيا، أجبر فيه ضباطٌ من الجيش رئيس البلاد المنتخب، إيفو موراليس، على تقديم استقالته ومغادرة البلاد، لينصبوا شخصيات مدنية وعسكرية موالية للولايات المتحدة على رأس الحكم في البلاد مانعين حزب «الحركة نحو الاشتراكية» الذي ينتمي إليه موراليس من الترشح لـ«الانتخابات المهزلة» التي نظمتها واشنطن.
«ما خسرناه سنستعيده...»
وقتها، أكد موراليس أن ما جرى هو «انقلاب داخلي وخارجي» وأن «واشنطن لم تغفر لبلادنا اختيارها السعي لإبرام شراكات مع روسيا والصين لاستخراج الليثيوم (تملك بوليفيا أكبر احتياطي من الليثيوم في العالم)، واستبعاد الولايات المتحدة»، مشيراً إلى أن خطوته بمغادرة البلاد جاءت منعاً لانفلات الأمور وانفتاحها على خيار الصدام الأهلي، مشدداً على أن «ما خسرناه في الانقلاب، سنستعيده ديمقراطياً عبر الانتخابات».
منذ ذلك الحين وعلى مدار عام كامل، عملت كوادر «الحركة نحو الاشتراكية» من أجل التحضر للمعركة الانتخابية التي كان من المزمع عقدها في شهر أيار الفائت، وتأجلت إلى تشرين الأول الحالي بفعل تبعات فيروس كورونا. وتركزت المعركة على مسارات ثلاث: تأمين أكبر عدد من المندوبين عن الحزب إلى صناديق الاقتراع حيث يجري الضغط لمنع أية عملية تزوير محتملة، ومحاولة الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من مؤيدي الحزب ورافضي الانقلاب الأمريكي لحثهم على المشاركة في الانتخابات، وإبداء أعلى مستوى من الانضباط وعدم الانجرار إلى استفزازات الأطراف الموالية لواشنطن التي أرادت التعبئة والشحن لتكون لها الذريعة من أجل تأجيل الانتخابات. ولتأتي المفاجأة صباح يوم أمس الإثنين 19/10/2020 بإعلان النتائج الأولية عن فوز مرشح «الحركة نحو الاشتراكية»، لويس آرسي، برئاسة البلاد باعتراف المرشح المدعوم أمريكياً، كارلوس ميسا، الذي أكد أنه خسر الانتخابات وبهامشٍ كبير في الأصوات، حيث نال آرسي قرابة 53% من الأصوات فيما لم يجني منافسه الأقرب أكثر 30% منها.
بالتأكيد، لم يوفّر موراليس هذه المناسبة ليعلن: «اليوم بات بإمكاننا إخبار العالم أن حزب الحركة من أجل الاشتراكية قد أوفى بوعده الذي قطعه قبل عام: لقد أصبحنا بالملايين، وسنعيد الأمل لأمريكا الجنوبية... عبر تجربتنا الصغيرة سنساعد في توحيد المنطقة مرة أخرى».
موجة نهوض يسارية جديدة؟
لا تقتصر دلالات انتصار «الحركة نحو الاشتراكية» على حدود التحولات المرتقبة التي أعلن عنها الرئيس الجديد المنتخب في بوليفيا (قطع الطريق على الأطماع الأجنبية، والاستفادة من ثروات البلاد ومشاريع التنمية الشاملة وإعادة الوحدة الداخلية). بل الأهم من ذلك هو تلك الهزيمة المذلّة التي منيت بها الولايات المتحدة في واحدة من دول القارة التي تعتبرها «حديقتها الخلفية» حيث عملت واشنطن على ضرب اليسار «من فوق» وعبر الانقلاب، ليعود هذا اليسار «من تحت» وعبر الانتخابات، كما لو أن لسان حال الشعب البوليفي يردد مقولة الفيلسوف الإيطالي الشهير غاليليو غاليلي الذي أجبرته السلطات الكنسية على التراجع عن رأيه بأن الأرض هي ما يتحرك حول الشمس وليس العكس، ورغم ذلك ظل يردد: «ومع ذلك، فإنها تدور» في دلالة على قوة الحقائق الموضوعية؛ فالشعب البوليفي الذي ذاق القمع والعنصرية وجرى تهديده بإعادة إحياء شبح التاريخ الطويل من الحرب الدموية بحق السكان الأصليين آثر أن يردد مجدداً: «عجلة التاريخ مستمرة في الدوران بالاتجاه نفسه: إلى الأمام».
أخيراً، يفتح الانتصار في بوليفيا الباب أمام احتمال جدي لموجة نهوض جديدة لقوى اليسار في القارة الأمريكية الجنوبية، ذلك على أرضية الخراب الاقتصادي والسياسي التي خلّفها موالو واشنطن حيث سمحت لهم الظروف بالتمدد أولاً، والمهام الجديدة الناشئة أمام اليسار البوليفي الذي سيتوجب عليه إدارة بلاد مرت بفترة من الفوضى، ولا سيما داخل إدارة الجيش التي بات من المعروف وجود ولاءات أمريكية داخلها، بالتوازي مع مهام أخرى تتمثل بالتكامل مع الدول المناهضة للنفوذ الأمريكي في القارة، إلى جانب السؤال القديم الجديد حول ضرورة تجذير السياسات اليسارية، فضلاً عن وقوف اليسار البوليفي علناً أمام المعادلة التالية: بعد كل ما مرّ على الشعب البوليفي، ها هو يشير بيديه نحو الاشتراكية، فهل نحن أهلٌ لها؟