جريمة المرفأ: عن أقمار سوريّةٍ في سماء بيروت
 بديع الزمان مسعود - صوت سوري بديع الزمان مسعود - صوت سوري

جريمة المرفأ: عن أقمار سوريّةٍ في سماء بيروت

توطئة
«المسافة بين الموت والحياة
أقرب من حبل الوريد
ولا يراها سوى القتلة»
هاشم الجحدلي ـ كاتب عُماني

قبل مائة عام
في مشهد غرق السفينة تايتانيك، من الفيلم الذي كتبه وأخرجه جيمس كاميرون، العام 1997، نسمع سيدة تقول: «يالله.. يالله»، وهي تستعجل ابنتها للفرار من السفينة. يرد زوجها «بس بس خلّيني شفلك»، ويقلّب بارتباك صفحات دليل السفينة باحثاً عن مخرج للهرب مع عائلته. 
تظهرُ تلك العائلة خائفةً، حيث يتجمع ركّاب الدرجة الثالثة، الفقراء والحمّالون والوقّادون، أسفل السفينة العملاقة.
إلى جوارهم، يركض جاك (ليوناردو دي كابريو)، الرومانسي العاشق، ممسكاً يد حبيبته روز (كيت وينسلت). تتابع الكاميرا مع العاشقين البطلين، وتتحوّل تلك العائلة ـ وغيرها ـ إلى مجرد تفصيل هامشي. وبعد تلك اللقطة، التي استمرت ست ثوان فقط، لا نسمع أو نرى أي حضور  لأفرادها.
بعد مائة عام من الكارثة، نظمّت إحدى الشركات البريطانية رحلة على مسار تايتانيك نفسه، ضمّت في من ضمت أحفاد الضحايا، وطبعا لم يكن من بينهم أيّ من أحفاد تلك العائلة.
العائلة كانت من بلاد الشام، أي سوريا ولبنان وفلسطين واﻷردن، من بلاد كان كلٌّ من سكانها يحملون صفة «سوري». 
يذكر المؤرخ الفلسطيني، راي حنانيا، أن تايتانيك كانت تحمل على متنها 79 راكباً سورياً، من أصل 2435 راكباً، نجا منهم 29 راكباً فقط.
فيما يشير الموقع الرسمي للسفينة إلى أن عدد السوريين على متنها كان أقل من ذلك (81 راكباً). 

أما الروائية السورية ليلى سلّوم الياس في عملها الهام «سوريون على متن تايتانيك» فتتحدث عمّا يراوح بين 145-165 سورياً وأرمنياً كانوا على متن السفينة، وتوثّق قصص نجاتهم وموتهم.
المفارقة المؤلمة أنّ أسماء كثير من الركاب السوريين كُتبت على غير ما يجب، فضاعت في ما ضاع من أرواح، وبقيت قائمة أسمائهم غير منتهية.

 

قبل أقل من عام
اليوم الأول لحراك ١٧ أكتوبر / تشرين الأول في لبنان.

نحن اﻵن في مستودع وسط مدينة بيروت، مقابل موقف العازارية. السماء تمطر، وليست لدينا تدفئة، ولا بطانيات، ولا كهرباء. 
نحن ـ بصيغة الجمع ـ عاملان سوريان: ابراهيم يونس وإبراهيم حسين. كلانا ابراهيم، أحدنا سّجله موظف النفوس بهمزة تحت اﻷلف، واﻵخر نسيها. نحن ننام في المستودع.

تتحول حيوات السوريين إلى قوائم، ولا قوائم، غير منتهية في كل شيء، حتى في الموت

اليوم اﻷول لحراك 17 أكتوبر، مات العاملان من جراء احتراق المستودع.  
«نحن نعتبر هذين العاملين (من) شهداء انتفاضتنا. ونطالب بتحقيق فوري لمعرفة كيف يُترك العمال يبيتون في منشأة غير مجهزة بأدنى متطلبات السلامة، أقلها طفاية حريق؟ كل الحب والدعم لجميع العمال والعاملات على الأراضي اللبنانية واللاجئين/ت فيها». 
ندعوكم لإضاءة الشموع عن روحيهما، وذلك نهار الأحد في 21 أكتوبر 2020 الساعة السابعة مساءً أمام المبنى الذي استشهدا فيه، والمواجه لموقف العازارية.

 

قبل عشرة أيام تقريباً
أكثر من أربعين اسماً مسجّلاً وموثقاً لسوريين في قوائم ضحايا جريمة مرفأ بيروت. بعض القوائم تضمنت 43 اسماً سورياً، بعضها تحدث عن 49 ضحية. 
بحسب تصريح السفير السوري، هناك احتمال لوجود ضحايا سوريين آخرين غير مسجلين على قوائم المرفأ. هؤلاء لقوا حتفهم في الانفجار، ولا أحد يهتم بمعرفة مصيرهم إلا المجهولون مثلهم. 
مرة أخرى القائمة السورية غير منتهية، مثلها مثل قائمة اﻷطباء المتوفين بسبب فايروس كورونا داخل البلاد، ومثل قوائم ضحايا الحرب والمفقودين والمخطوفين والمعتقلين، ومعهم - بلا قوائم أحياناً - أولئك الذين عبروا البحر وابتلعهم. 
تتحول حيوات السوريين إلى قوائم، ولا قوائم، غير منتهية في كل شيء، حتى في الموت.
ثلث ضحايا المرفأ من عماله السوريين. عمّال المرفأ هنا جملة نافرة، وخارجة عن السياق، فهؤلاء العمال ليست لديهم سجلات تثبت أنهم كانوا هنا ذات يوم، لا هويات ولا وثائق ولا تصاريح دخول أو خروج لكثير منهم، لا صور لهم وهم يمزحون مع البحر أو يصطادون حلماً معلّقاً إلى جهة الشرق، إلى جهة الشام حيث تتجه رافعات المرفأ بعين واحدة.
لا أحد يبحث عنهم في خرائب الماء والأمونيوم والقمح، لا صورة لهم تتحول إلى Trend. (ليت الفتى حجر).


اﻵن
انتشرت صور كثيرة لمفقودين في جريمة المرفأ، لكنّ صور المفقودين السوريين منهم شبه غائبة. كذلك صور الموتى واﻷحياء و«سيلفي» الذكريات المرّة دائماً، فحتى هواتفهم الخليوية ذابت في الانفجار.
لا نداء لهم من أحبة وأصدقاء، بعض أهاليهم لا يجرؤ اﻵن على الظهور في الشارع لينادي رفيقاً أو أخاً أو ابناً، فهناك من يترصده، وهناك أيضاً من يقف على باب خيمته منتظراً وفاقداً أمل اللقاء بالأحبة. 
وحده صوت الخوف والفقد يعلو في المكان بصمت، اﻵن، لا صوت يعلو فوق صوت الفقد. تلك مرة أخرى قائمة غير منتهية من خيباتنا. 
وهنا، هنا على أعتاب هذا اﻹسمنت دارت الجبّالات ذات زمان بالإسمنت والذكريات والأحلام، وجبلت الصور القديمة لحروب الإخوة القتلة، وقلبت المدينة رأساً على عقب. 
«أما الذين يعمّرون شاهقاتها فهم أيضا يدورون، ينقلب بهم المبنى حين يتحول في الليل إلى حفرة تحت الأرض، يأكلون فيها وينامون ويتدربون على موتهم»، نردد مع إلياس خوري ما كتبه قبل سنوات، متحدثاً عن الفيلم المتميز «طعم الإسمنت» للمخرج السوري زياد كلثوم.
ماهو طعم الإسمنت وهو يتلقانا بصدر رحب؟ هل رائحة العَمار هي حقّاً نفسها رائحة الدمار؟ 
لا تسألوا سوريّاً عن البارود!


الآن أيضاً
يأخذ عمّال سوريّون المكانس والرفوش والمعاول، ويتجهون إلى الشوارع الممتلئة بالزجاج واﻷوجاع. يدرك أولئك العمّال شعور الرعب حين ينفجر ما حولك وتبقى على قيد الحياة، ويدركون جميعاً ذلك الصوت الذي يرنّ في روحك حين «تنده، وما في حدا»، إنه الخذلان يمتدّ في طبقات البلاد وعرضها، و«..ما في حدا».
من أعالي جبال لبنان، هناك حيث مخيّمات لسوريين نازحين، منكوبين، متروكين في مواجهة أقدارهم، هتف سوريون ﻷشقائهم في النكبات:
تعالوا ... صدر خيامنا لكم وعتباتها لنا.

المصدر: صوت سوري

آخر تعديل على الثلاثاء, 18 آب/أغسطس 2020 19:32