أجهزة العلاج والكشف عن الفيروسات: ضرورة التمييز بين التمني والتقييم العلمي
دوافع الكتابة: أكتب هذا المقال من واقع المسئولية كمواطن مهتم بصحة ملايين المصريين المصابين بمرض يسبب المعاناة الصحية الشديدة وغالبا ما ينتهي بالموت المبكر، وكمشتغل لعدة عقود بالعلم ومهتم بمستقبله في مصر وبسمعة الوطن، وكحريص علي سمعة جيشنا الوطنيخصوصا في الظروف السياسية التي تمر بها البلاد الآن. لايخفي علي أحد أن هناك قوي سياسية محلية وإقليمية وأجنبية تسعي للنيل من جيشنا الوطني وتشويه ما أنجزه بالفعل من حماية هوية المجتمع وإنقاذ مصر من براثن الإخوان والإسلام السياسي. لكل هذه الأسباب وجدت من الضروري تناول موضوع جهاز الكشف عن فيروس سي والإيدز عن بعد وجهاز آخر يعالج من هذه الأمراض والعديد غيرها، خصوصا وأن هذه الأجهزة تعمل بقواعد غير معروفة علميا.
هل أصبح البحث عن الحقيقة جهل وعمالة وتحطيم آمال؟
سرعان ما يتهم لغير المقتنعين بهذا الاكتشاف، وغيره من اكتشافات سابقة تزعم الوصول إلي علاجات ناجحة، بأنهم أعداء النجاح أو أنهم لا يؤمنون بالقدرات المصرية أو أنهم غير وطنيين وجهلاء وعملاء، أو أنهم لا يفهمون المتغيرات العلمية أو أنهم غير متنبهين لوسائل مافيا الدواء العالمية التي صدرت مبيدات سرطانية ( انظر مقالات للكاتب بالأهرام الإقتصادي في أوائل الثمانينات) ولغطرسة قوي الهيمنة الأجنبية التي نتصدي لها دائما،أو أن لديهم أسباب شخصية غير معروفة. كما أنهم مشككون، علماً بأن الشك والتساؤل فضيلة عندما يكون أول خطوة في البحث عن الحقيقة بل هو واجب علمي ووطني. أما الثقة العمياء وقبول الأمور دون تمحيص و تفكير فهو الخطيئة بعينها. و رغم ذلك، نتفهم تعلق المرضي بتمنيات غير واقعية ولكن هذا لا يمكن أن نقبله من باحثين جادين.
إن اتهام الغير مقتعين بأنهم يحبطون آمال الملايين من المرضي ولا يكترثون بهم اتهام غير صحيح في حين أن إعطاء أوهام للمرضي مما يؤدي لبعضهم التوقف عن العلاجات الحالية (رغم أنها لا تقضي علي الفيروس بشكل كامل) فينم عن عدم مسئولية كبيرة. ولهذا يجب ان نتحلي بأقصي مستوي من المسئولية، كما يجب التحفظ الشديد والحرص الكبير قبل اعلان نتائج موثقة وخاضعة للقواعد العلمية وعلي رأسها الحصول علي نفس النتائج تحت نفس الظروف.
استدعاء المنطق
أؤكد أن هناك عدة جوانب متعلقة بالمنطق البسيط الذي لا تتطلب أي خلفية علمية وتكفي وحدها لبلورة قناعة أولية. كما أن هناك أمور أخري تتطلب معرفة بالأداء العلمي وتطوره والتمييز بين الثوابت والمتغيرات العلمية. الوسيلتين معا يؤديان إلي قناعة أكثر تأكيداً في غالب الحالات حتي قبل حسم الموضوع من خلال القياس العلمي الملتزم بالقواعد الصارمة المعروفة للقائمين بمثل هذه الدراسات.
علي من تقع المسئولية؟
فريق البحث هو المسئول الاساسي عن صحة النتائج ودقة المزاعم العلاجية وليس المؤسسة، سواء كان جيش او مركز بحوث او جامعة الا اذا تبنت المؤسسة رسميا صحة النتائج. اقحام جيش مصر الوطني في الموضوع قبل التحقق منه من قبل مؤسسات علمية محايدة أمر خطير خصوصا في الظروف السياسية الحالية.ولهذا أري من الحكمة أن تنأي المؤسسة العسكرية بنفسها عن أي اكتشافات حتي التحقق القاطع من صحتها وأن تصدر بيانا واضحا وعاجلا بذلك.
اكتشافات أمريكية زائفة
هناك اكتشافات أمريكية تتناقض مع أسس علمية ثابتة فكيف تعاملت معها المؤسسات العلمية؟ وماذا كان مصيرها؟. فعلي سبيل المثال نذكر إدعاء انصهار نووي عند درجات حرارة عادية. ورغم أن باحثين مرموقين قاموا بهذا الاكتشاف، وزعم أحدهم أن قيمة الاكتشاف ثلثمائة تريليون دولار، إلا أن الجمعية الفيزيائية الأمريكية "شككت" في الاختراع ثم رفضته بعد فشل تكرار النتائج وغياب نموذج نظري للانصهار النووي البارد. وسرعان ما تراجعت الجامعة التي أجريت الأبحاث بها عن دعمها. يجب أن أؤكد هنا أن المؤسسة العلمية أعطت فرصة حقيقية لإثبات صحة أو خطأ الاختراع رغم الشكوك الكبيرة وأكرر أن مصداقية أي اختراع أو اكتشاف ترتكز علي الإثبات المعملي المتكرر. والجدير بالملاحظة أن العلميون الذين توفرت لديهم خبرة طويلة، وبصرف النظر عن تخصصاتهم لديهم القدرة علي التمييز بين ما هو علمي وما هو غير علمي مهما كان الاكتشاف مدهشا أوغير متوقعا مثل اكتشاف نوع جديد من الكربون غير الجرافيت والماس.
اكتشافات مصرية مزعومة
وفي واقعنا المصري لا بد من الاستفادة من خبرات سابقة متعلقة باكتشافات مزعومة تبين فيما بعد عدم مصداقيتها رغم الإدعاءات الواسعة إعلاميا. سأسوق حالتين فقط من أمثلة عديدة. أولها اكتشاف طبيب مرموق في عمله كجراح ولكنه أعلن عن دواء لفيروس الإيدز وأسماه إم إم واحد وإم إم إثنين تباركا بالحروف الأولي للرئيس مبارك والرئيس موبوتو. هذا الدواء يعتمد علي حقن من اللبن والذي يؤدي الي استنهاض مؤقت لجهاز المناعة بسبب بروتينات اللبن الدخيلة في الدم وبالتالي تقل أعداد الفيروس ولكنها تعود لمستواها السابق بعد فترة قصيرة. المثال الآخر لأستاذ بجامعة الإسكندرية والذي زعم كما أعلن "اكتشاف علاج نهائي للسرطان بدون التدخل الجراحي أو الكيميائي باذن الله" وشكلت لجنة لتقييم الموضوع انتهت بتحويله لمجلس تأديب. إذا هناك تاريخ حافل في إعلامنا باكتشافات مذهلة ولكن للأسف لم تستند للمعايير العلمية بل تميزت بعدم المسئولية وأحيانا بغياب الأمانة العلمية التي كثيرا ما تضرب بعرض الحائط في هذا الزمن. والمدهش أن الاتهامات المعتادة سيقت للدفاع عن هذه الاكتشافات المزعومة من عدم الإيمان بالقدرات المصرية والعدوانية ضد النجاح ..الخ. وكثيرا ما صاحب هذه الاكتشافات المذهلة عروض سخية بالملايين بل بالبلايين من الدولارات من مصادر مجهولة.
الالتزام بالقواعد العلمية وبالنتائج الموثقة
ليس كافيا أن يعلن باحث أنه التزم بالقواعد العلمية المتبعة بشأن اكتشاف دواء أو طريقة علاج جديدة بدءا بالاختبارات علي الفيروس ثم الحيوانات وانتهاءً بالاختبارات علي المرضي. وليس كافيا أن يؤكد أن اختيار العينات تم بطريقة علمية. لابد من توثيق الاجراءات بشكل كامل علما بأن هذا لا يتناقض مع سرية الاكتشاف. أما الحديث عن إحضار مريض وعلاجه لإثبات نجاح جهاز او دواء فهو حديث غير علمي وغير مسئول. والقول بأن تجارب ناجحة أجريت في الهند وباكستان واليابان فهذا لايعني شيئا دون تقرير علمي موثق من قبل هيئات علمية معروفة تذكر بالتفصيل كيفية اختيار العينات ووجود عينة حاكمة والظروف التفصيلية لهذه التجارب من حيث المتابعة الدقيقة لكل مريض في العينات وتطور المرض لفترة زمنية كافية للتأكد بأن اختفاء الأعراض وتراجع عدد الفيروس في الدم ليس مؤقت وأن الفيروس لم يختفي كليا بل أصبح كامن في أعضاء مختلفة من الجسم.
التمييز بين النظرية والتطبيق
من الضروري التمييز بين النظريات العلمية وتطبيقاتها. فمثلا لم نحتاج لنظرية جديدة للوصول إلي القمر أو إلي زرع أعضاء مثل القلب أو الكبد أو إلي استخدام البيولوجيا الجزيئية لتخليق أعضاء جديدة للإنسان. ولكننا احتجنا لنظرية جديدة لفهم سلوك الالكترونات في الذرات والجزيئات وامتصاص الضوء لها وانبعاثه منها. وهكذا انبثقت نظرية الميكانيكا الكمية بعد فشل الميكانيكا الكلاسيكية في فهم الصفات الالكترونية في الذرات والجزيئات. لم يعني هذا أن الميكانياكا الكلاسيكية غير صحيحة ولكنها تنطبق فقط علي الجسيمات ذات الكتلة الكبيرة بالنسبة للإكترون مثل الكرة أو الصاروخ والتي تتحرك بسرعات بطيئة بالنسبة لسرعة الضوء الهائلة. صحيح أننا احتجنا إلي تقدم تكنولوجي هائل في العديد من المجالات مثل علم المواد والكمبيوتر ووسائل الاتصال وغيرها لتحقيق انجازات هائلة ولكننا لم نحتاج الي نظريات جديدة باستثناء ضرورة تطبيق الميكانيكا الكمية في كل مايتعلق بالجسيمات الصغيرة في كتلتها مثل الإلكترون.
المطلوب في شأن تقييم اكتشاف أو اختراع جديد أو حل مشكلة تكنولوجية هو الدراية الجيدة بالمنهج العلمي و بالقوانين العلمية الثابتة، وفي هذا المقام نذكر أن العالم فايمان المعروف والغير متخصص في تكنولوجيا الصواريخ هو الذي حل لغز انفجار صاروخ شالنجار والذي أودي بحياة كل رواد الفضاء الذين كانو علي متنه، بسبب تسرب الوقود نتيجة تحول مادة مطاطاية عازلة إلي مادة هشة بسبب انخفاض درجة الحرارة. هنا تجلي المنطق العلمي وسبق المتخصصين. أما دور المتخصص فهو في اجراء التجارب المعملية والمؤدية لتكرار نفس النتائج تحت ظروف محكمة. وفي حالات كثيرة مثل موضوعنا هذا نحتاج لتخصصات متعددة للتقييم العلمي الجاد: فيزيائين وبيولوجيين وكيمائيين وبيوفيزيائيين ومهندسين وأطباء..الخ فالطب وأدواته ليس منقصلا عن هذه التخصصات.
إدعاء تحويل الفيروس إلي غذاء
أما عن إدعاء تحويل الفيروس إلي غذاء بروتيني للمريض فهذا يتناقض مع الحقائق العلمية بشكل حاسم. فكتلة الفيروس الواحد فمتوجرام، فاذا كان هناك مليون فيروس في الملليتر يصبح العدد في اللتر من الدم بيكوجرام ولأن الإنسان لديه حوالي خمسة لتر من الدم، تصبح الكتلة الكلية للفيروسات في جسم المريض المصاب حوالي خمسة ميكروجرام حتي إذا افترضنا أن الفيروس كله بروتين وهو غير ذلك فهناك مكونات أخري ( أحماض نووية التي تحمل المعلومات الوراثية). هذه الكمية لا تراها العين ولهذا فالكلام ان تحطيم الفيروس وتحويله لمكونات البروتين يصبح غذاء يحتوي علي كمية هائلة من مكونات البروتين يضرب بالعلم عرض الحائط.
القانون العلمي ليس وجهة نظر
العلم له قوانين أساسية وقواعد ثابتة متفق عليها من قبل المجتمع العلمي (علي سبيل المثال استحالة خلق شيء من العدم) وأي اكتشاف يتناقض مع المباديء المتفق عليها مشكوك في صحته حتي يقدم الباحث الدلائل علي صحته. أما عندما تصطدم حقائق علمية جديدة ومتعددة مع النظريات السائدة نكون بالفعل بصدد اكتشاف نظرية جديدة أو في الغالب نظرية أكثر عمومية من سابقتها. وهذا حدث بالفعل عند نشأة نظرية الميكانيكا الكمية التي ساهم في بروزها العالم المصري علي مصطفي مشرفة. فمثلا عندما طرح العالم "دي بروجلي" امكانية الحديث عن موجات مصاحبة لحركة الجسيمات، لم يُقبل هذا الطرح إلا بإثبات معملي واضح انتهي بقبول الإفتراض واختراع الميكروسكوب الإلكتروني الذي يعتمد علي هذا الإفتراض وهكذا ولدت وسيلة جديدة بحثية لها تطبيقات هائلة.
تساؤلات علمية ومحورية
هناك تساؤلات علمية ومحورية حول العديد من المسائل المتعلقة بالموضوع:
·ماهية الأشعة الكهرومغناطيسية التي يقال أنها تنبثق من الفيروس وتركب (كما ذكر د.أحمد مؤنس العضو في الفريق الطبي للإختراع) مع الموجة المنبثقة من الجهاز الذي به البصمة الجينية للفيروس فينتج عن ذلك طاقة حركية في حالة مريض يحمل الفيروس. هذا كلام لا يمكن قبوله علميا. نريد دليل علمي علي انبثاق هذه الأشعة من الفيروس، أيا كانت موجاتها.
· وحول تكسير روابط البروتين الذي يغلف الفيروس دون تكسير روابط أخري فما هي الأسس النظرية لهذا الأمر؟
· جهاز الكشف عن المفرقعات الذي يعتمد علي نفس الأساس الذي يستند إليه اختراع التشخيص عن الفيروس قد ثبت عدم فاعليته أما صاحب الشركة الذي باع العديد من جهازه بعشرة آلاف جنية استرليني للجهاز الواحد ثبت عليه تهمة النصب ويقبع الآن في السجن بانجلترا بعد الحكم عليه سبعة سنوات!!
· أما براءة الاختراع التي قدمت للمنظمة العالمية للملكية الفكرية في جنيف عام 2011 فقد رُفِضت لغياب الأساس النظري و الدليل المعملي. كما أن الورقة لإختراع سي فاست منشورة في دورية “الاكاديمية العالمية للعلوم الهندسية والتكنولوجية" التي لا ترقي إلي مستوي الدوريات المعروفة في مجالات الطب والعلوم والتي تخضع لنظام تحكيم صارم.
· ماهو دور الكبسولات التي يتناولها المريض لرفع مناعته وعلاقة ذلك ببقية العلاج؟ وهناك تساؤل حول ما إذا كانت محتواياتها من أعشاب غير محددة.
· إن اكتشاف وسيلة علاجية تقضي علي فيروس الإيدز و فيروس سي وانفلونزا الخنازير ويعالج الانيميا وضغط الدم ومرض السكر ويحسن وظائف البنكرياس والكلة والكبد والقلب يجب التعامل معها بريبة شديدة، خصوصا وأن ذلك يتطلب حسب أحد المساهمين في الإختراع تغيير القوانين العلمية في مجالات الكيمياء والفيزياء والبيوفيزياء.
· إن مقولات للباحث الأساسي وإداناته للآخرين تتناقض مع آداب النقاش العلمي.
كلمة اخيرة ولعلها الأهم
قناعتي أن هذا الاختراع، سواء الكشف عن الفيروس أو علاجه بصحبة باقة من الأمراض الأخري، ليس له أي أساس علمي. وللأسف أنه يتناغم مع رغبة البعض الجامحة لتصديقه. يساعد في ذلك تدهورالثقافة عموما وغيابها في المضمار العلمي.
إنه لمن المؤسف والمحزن غياب مرجعيات علمية جادة في مصر يكون أحد مهماتها ضبط الأمور في قضايا البحث العلمي والاكتشافات العلمية. ولعلنا نتسائل أين دور أكاديمية البحث العلمي المصرية في هذا الصدد؟
أشير أيضا إلي الوضع المتردي للبحث العلمي في مصر وما يصاحبه الآن من انتهاك متكرر للأمانة والدقة العلمية، رغم أن البعض يدغدغ مشاعر المواطنين بمقولات تسعدهم دون أساس . ولا يمكن أن نفصل هذا عن غياب برامج تنمية محلية معتمدة علي التقدم العلمي والتكنولوجيا والذي يعتمد أساسا علي قاعدة علمية وطنية متفاعلة بندية مع مؤسسات البحث العلمي في الخارج وتساهم بشكل ملموس في التقدم الصحي والصناعي والزراعي مما يؤدي إلي تحسين ملموس في الأحوال المعيشية لكافة المواطنين.