الأزمة الأوكرانية.. التلاعب الأميركي ونصائح كيسنجر
مواقف الإدارة الأميركية من الأزمة الأوكرانية، وإلى جانبها مواقف بعض دول حلف الناتو الدائرة في فلكها، تؤكد استمرار التلاعب بالمعايير من خلال إعطاء تفسيرات خاصة لقواعد القانون الدولي، تعقِّد الأزمات بدل حلها لانتزاع مكاسب أميركية وأوروبية غربية على حساب المصالح الوطنية العليا لدول العالم الأخرى وشعوبها.
تتحمل دول حلف الناتو، والولايات المتحدة خاصة، مسؤولية إثارة العديد من الحروب والأزمات والنزاعات في العالم، خلَّفت مآسي مروعة بأعداد الضحايا والنتائج السياسية والاقتصادية والأمنية التي ترتبت عليها. ورغم ذلك تخرج علينا واشنطن وحليفاتها بمطولات عن احترام القانون الدولي، وضرورة الالتزام بالمعاهدات والمواثيق الدولية، متناسية أنها هي من يضرب على الدوام بعرض الحائط القوانين والأعراف والمواثيق الدولية، بإخضاعها لمعايير مزدوجة تجيز للولايات المتحدة وباقي دول حلف الناتو ما لا تجيزه لغيرها، حتى عندما تكون الدول الأخرى في حالة دفاع عن النفس أو عن احترام مصالحها القومية العليا.
المواقف الأميركية والأوروبية الغربية من الأزمة الأوكرانية دليل جديد على أن سياسة الكيل بمكيالين، والتلاعب بمعايير القوانين والمعاهدات والمواثيق الدولية، مازال ديدن السياسات الخارجية لواشنطن وحليفاتها. وفوق ذلك هي لا تتورع عن الإدعاء بأنها من يحمي "الشرعية" في العالم ويدافع عن حقوق الإنسان ويدعم حق تقرير المصير للشعوب.
للتذكير؛ وكنا قد أشرنا إلى ذلك في مقال سابق في "أنباء موسكو"، تلعب واشنطن وحليفاتها لعبة باتت مكشوفة ولا تنطلي على أحد، فالحروب الخارجية التي شنتها الولايات المتحدة من جانب واحد، والأزمات والحروب الأهلية التي أشعلت نارها في العديد من بلدان العالم، مدعومة من حلفائها في شكل أو آخر، أودت بحياة الملايين من البشر.
ومن الأمثلة الأكثر دموية على ما سبق، إشعال حرب أهلية في اليونان (1949) قتل فيها 154 ألف مواطن يوناني، وحرب أهلية في شبه الجزيرة الكورية بين عامي 1950-1953، وشن حرب على فيتنام (1954 ـ 1975) أبيد فيها أربعة ملايين فيتنامي، وتدبير انقلاب سوهارتو ضد رئيس اندونيسيا سوكارنو في العام 1968 أبيد فيه مليون من الاندونيسيين في عمليات إعدام جماعية، وانقلاب على الرئيس سلفادور اليندي في تشيلي في العام 1973 أعدم فيه 30 ألف من مؤيديه، واحتلال بنما عام 1989، وحصار العراق منذ العام 1991 حتى احتلاله في نيسان 2003 وقضى في الحصار والحرب أكثر من مليوني مواطن عراقي، واحتلال أفغانستان 2001 الذي يناهز عدد الضحايا المدنيين فيه ما يقارب 400 ألف مواطن أفغاني، والتدخل العسكري في ليبيا عام 2011، فضلاً عن دورها في نشوء واستمرار الصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي، الذي حصد أرواح مئات آلاف الضحايا.
ولا يتسع المجال للتذكير بعشرات الأمثلة الأخرى، لكن الأمثلة المشار إليها تكفي لإظهار الوجه البشع للسياسات الخارجية الأميركية، والحذر من المواقف و"النصائح" المسمومة التي تقدمها في الأزمات، وآخرها ما صدر من مواقف إزاء الأزمة الأوكرانية.
وزير الخارجية الأسبق والأشهر هنري كيسنجر، الذي يحلو للبعض تسميته بـ"ثعلب السياسة الأميركية" كتب مقالاً في صحيفة "واشنطن بوست"، صفحة الرأي، حذَّر فيه من أن "النقاش العام حول أوكرانيا يتمحور حول المواجهة، من دون أن يعني ذلك أن الولايات المتحدة تدرك إلى أين يتجه الأمر". وأضاف كيسنجر، في رسالة ضمنية موجهة إلى الإدارة الأميركية، أن بلاده خاضت أربعة حروب خلال حياته المهنية، بدأت بحماس كبير وتأييد شعبي، ثلاث منها انسحبت منها بصورة أحادية. ولم يمد كيسنجر الأمور إلى نهاياتها كي لا يعترف بأن الولايات المتحدة ألحقت بنفسها هزيمة، لكنه يقدم نصيحة ثمينة للرئيس أوباما وإدارته بالقول: "المهم في الحروب هو كيف تنتهي لا كيف تبدأ".
نصائح أخرى لا تقل أهمية قدمها كيسنجر في المقال ذاته للإدارة الأميركية أبرزها:
النصيحة الأولى: "إذا كانت المسألة الأوكرانية تُطرح على أنها صراع بين الشرق والغرب، فإن على كييف أن تكون جسراً بين الاثنين"
النصيحة الثانية: "على الغرب الفهم أن أوكرانيا لن تكون يوماً مجرد بلد جار لروسيا، فقد كانت جزءاً منها على مدى قرون. كما أن معركة بولتافا عام 1709 التي تُعد من رموز الحرية الروسية، خيضت على الأرض الأوكرانية".
النصيحة الثالثة: "العامل الحاسم في هذه الأزمة هم الأوكرانيون أنفسهم، فهم ينتمون إلى بلد بتاريخ معقد، الجزء الغربي منه ضُم إلى الاتحاد السوفيتي عام 1939، بينما صار القرم، و60 في المئة من سكانه من الروس، جزءاً من أوكرانيا عام 1954 في عهد نيكيتا خروشوف الأوكراني المولد. أضف أن غرب أوكرانيا كاثوليكي بمعظمه، والشرق أرثوذكسي بغالبيته. الغرب يتحدث بالأوكرانية، والشرق بالروسية. وأي محاولة من أي جناح أوكراني للهيمنة على الآخر ستقود إلى حرب أهلية أو انفصال".
النصيحة الرابعة: "استقلال أوكرانيا حديث العهد.. وهذا جعل زعماءها لا يجيدون فن المساومة. وتشير سياسات أوكرانيا المستقلة إلى أن جذور المشكلة تكمن في جهود السياسيين الأوكرانيين لفرض إرادتهم على الأجزاء الأخرى من البلاد. هذا هو جوهر الصراع بين فيكتور يانوكوفيتش وغريمته يوليا تيموشينكو، فكل منهما يمثل جناحاً لأوكرانيا، وهما غير مستعدين لتقاسم السلطة".
النصيحة الخامسة: "على الولايات المتحدة التوقف عن اعتبار أن على روسيا الخضوع لقواعدها، مع الإقرار أن فهم التاريخ الروسي ليس نقطة قوة لصانعي السياسة الأميركيين".
وينهي كيسنجر مقاله بنصيحة عملية تتضمن رؤية براغماتية للخروج من الأزمة الأوكرانية مفادها: "أولاً: أن يكون لأوكرانيا الحق في أن تختار بحرية صلاتها الاقتصادية والسياسية، بما في ذلك مع أوروبا. ثانياً: ليس عليها الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. ثالثاً: أن تتمكن من اختيار الحكم الذي يجسد إرادة مواطنيها، من دون معاداة روسيا. رابعاً: على أوكرانيا تعزيز الحكم الذاتي في القرم".
ويمكن القول إن نصائح كيسنجر في مجملها تسلط الضوء على مكمن الخلل في رؤية صانعي السياسة الأميركية والأوروبية الغربية. ومن الحقائق التي يجب أخذها بعين الاعتبار في المواقف الروسية تجاه نشوء الأزمة الأوكرانية وتطوراتها، حقيقة أن روسيا كانت منذ البداية مع تسوية سلمية للأزمة، وحذَّرت غير مرة من الانقسامات الحادة داخل المجتمع الأوكراني، والتي ساهمت الأزمة في تعميقها، لاسيما بعد الخطوات التي أقدمت عليها المعارضة بعد استلامها للسلطة، من خلال إظهار العداء لروسيا، وإصدار مجموعة قرارات تمييزية ضد المواطنين الأوكرانيين من أصول روسية، تمس مصالحهم وحقوقهم في المواطنة.
كما أن روسيا أبدت، بعد المنحى الخطير الذي اتخذه الأزمة الأوكرانية، تمسكها بتسوية دبلوماسية تقوم على أساس الاتفاق الموقع بين يانوكوفيش والمعارضة في 21 فبراير/ شباط الماضي، بوساطة أوروبية- أميركية، رغم الملاحظات الروسية على الاتفاق. مما يفند بعض التحليلات والتقديرات الغربية حول أن روسيا ماضية نحو تدخل عسكري.
حقائق أدركها كيسنجر في مقاله في "واشنطن بوست" وتتجاهلها الإدارة الأميركية ودول حلف الناتو، التي تقدم نصائح مسمومة لكييف تساهم في تأجيج الأزمة، وقد تقود إلى ما لا يحمد عقباه إذا لم تراجع كييف مواقفها أخذاً بالمصالح الوطنية العليا لكل أبناء الشعب الأوكراني.
المصدر: أنباء موسكو