ليس مزحة: كاتب يطلب من اليسار أن يكف عن عدائه للرأسمالية!
حسناً، هي ليست مزحة: نشر موقع «بروكار برس» يوم أمس 28 نيسان مقالاً موقّعاً باسم «ماهر مسعود» وعنوانه «ضد اليسار أو نحو يسار جديد». الكاتب لا يطلب الكثير من اليسار، سوى أن يكف عن اعتبار النظام الرأسمالي والإمبريالية الأمريكية عدوه الأول!
يؤسس مسعود مقاله على قاعدة «قل لي من هو عدوك، أقل لك من أنت»، طالباً من اليسار أن يعيد تعريف نفسه لا بناءً على هويته هو، بل بناءً على تحديد ضد من يعمل هذا اليسار. على أساس هذا التحديد يصبح اليسار يساراً أو يساراً جديداً حين يعرّفُ نفسَه بأنه «عدو النظام»، ليس ذلك فحسب، بل ويبني سياساته على أساس هذه المقولة المانوية السطحية (أبيض وأسود)، وبالمحصلة فإن كل ما يؤيده النظام يكون اليسار ضده، والعكس بالعكس. وهذا المبدأ ليس بغريب عن أجزاء واسعة من «المعارضة» السورية التي لا تضع مصلحة الأغلبية الساحقة من الشعب السوري كمحدد للسياسات، بل المحدد الوحيد بالنسبة لها هو مبدأ «عكس عكاس». أبسط مثال على ذلك، وربما المثال الصارخ يتمثل بالمحاكمة "المنطقية" التالية: إذا قال النظام إنه ضد أمريكا (وبغض النظر عن صحة القول) يجب أن يكون اليسار مع أمريكا، وإلخ... (ملاحظة: وضعنا كلمة «المعارضة» بين قوسين لأن القسم الذي نتحدث عنه مطعون ليس في درجة جذريته بمعارضة سياسات النظام فحسب، بل حتى في كونه معارضاً من الأساس).
يسدي لنا مسعود معروفاً حين يؤكد أن «التحليل الماركسي للعالم أكثر تعقيداً» من أن يشرحه لنا في مقاله، وكان ذلك جيداً لو لم يصرّ على أن يضعنا في صورة فهمه للماركسية، حيث قال حرفياً: «وسائل الإنتاج وقوى الإنتاج تفرز نمط علاقات الإنتاج، والبنية التحتية هي التي تنتج وتحكم البنية الفوقية وعلى رأسها السياسة». وهنا، وإن كنا نشاطر الكاتب في حقيقة واحدة هي أن التحليل الماركسي أكثر تعقيداً من أن نشرحه هنا، فإننا سنكتفي بأن نوجه الكلام للكاتب: إن وسائل الإنتاج هي جزء من قوى الإنتاج التي تشمل العمل البشري، وهي لا «تُفرز» نمط علاقات الإنتاج، بل إن قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج يشكلان معاً أسلوب الإنتاج (البناء التحتي). كما أن البنية التحتية لا «تنتج وتحكم البنية الفوقية» بل إن البناء الفوقي ينشأ عن البناء التحتي دون أن يكون نسخة كربونية عنه، وهو يتمتع باستقلال نسبي لأنه نشيط وفعال ويؤثر بدوره في البناء التحتي، على أنّ هذا البناء التحتي، في إطار العملية التاريخية، هو العامل الحاسم في نهاية المطاف (ربما كان من الأجدى للكاتب أن يصرف بعض الوقت لقراءة رسائل إنجلز حول المادية التاريخية قبل أن يباهي بجهله بهذه الطريقة).
يزعم الكاتب وجود «خلل جيني أو تكويني» لدى اليسار السوري، وهو أنه «ينكر الطائفية» ويتجاهل مشكلة التعايش والاندماج الاجتماعي في سورية ويعتبرها محلولة. وهنا يمعن مسعود في إثبات قصوره المعرفي وعدم اطلاعه أو فهمه أدبيات القوى التي يزعم أنه ينقدها. المسألة ببساطة هي أن إنكار الطائفية شيء، واعتبارها تناقضاً ثانوياً هو شيء آخر تماماً. فالتناقض الثانوي موجود، وقوى اليسار لا تنكر وجوده، لكنّ عملها السياسي لا يقتصر على معالجة التناقضات الثانوية التي لا تمكن معالجتها أصلاً دون حل التناقض الأساسي الطبقي. فسلاح الطائفية هو أحد أسلحة الطبقة الناهبة (بالمناسبة، هذه الطبقة الناهبة متنوعة دينياً وطائفياً وقومياً وهي تشمل قوى محسوبة على النظام كما تشمل قوى محسوبة على المعارضة).
ويأخذ مسعود على اليسار أنه «إن أراد في أفضل حالاته ليبرالية وديمقراطية فهو يريدها دون رأسمالية»، وهنا لا نعلم تماماً من أين استقى مسعود أن اليسار يريد ليبرالية؟ نعم، اليسار يريد ديمقراطية، تلك الديمقراطية التي لا تمت بصلة لوصفات «الديمقراطية الغربية» التي تسبح بحمدها بعض «المعارضة» في سورية، الديمقراطية التي يريدها اليسار الجذري هي ديمقراطية شعبية تضمن للمواطن حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، أما «الديمقراطية» التي تُسقِط أبسط الحقوق الاقتصادية للإنسان - كما هو الحال في الغرب- فهي دكتاتورية أتقنت تمويه نفسها.
ويصل مسعود إلى استنتاجٍ مفاده أن «كل عداء للرأسمالية من خارج منظومتها وبغير آلياتها يضعك خارج الواقع والتاريخ». وبصدد هذه الفكرة لن نفعل ما هو أكثر من أن نحيل الكاتب إلى الكتابات الجديدة للمفكرين الرأسماليين في الغرب الذين هم أنفسهم يعترفون بوصول المنظومة إلى «أزمة مستعصية»، وأن نؤكد له أن الحديث عن إصلاح الرأسمالية من داخلها وعبر آلياتها في الوقت الذي تتماوت فيه هذه المنظومة لا يبقيك خارج الواقع والتاريخ فحسب، بل يجعل من أصحاب هكذا طروحات مجرد أضحوكة سمجة.
أخيراً، يرفض الكاتب أن يتركنا دون «خبطة من العيار الثقيل»، ليعلن أن «البنية الفوقية اليوم هي ما يحدد وينتج ويصنع البنية التحتية وليس العكس»، ويشهر مسعود دليله القاطع على ذلك وهو أن «الثروة التي يجنيها مارك روزينبيرغ من «فكرة» الفيسبوك تعادل ما تجنيه عدة بلدان مجتمعة تعيش على مواردها الأولية». وهنا لا بد من الرد بنقاطٍ ثلاث:
أولاً: اسمه مارك زوكربيرغ.
ثانياً: أي فعل إنساني، حتى لو كان أنْ تحك كاحل قدمك مثلاً، يسبقه التفكير في هذا الفعل. ولا دخل لهذا الموضوع في العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية الموضحة آنفاً. فلو لم تكن هناك حاجة مادية اقتصادية - وهي هنا حاجة لدى المنظومة الرأسمالية- في وجود «فيسبوك» وأمثاله، لكان وزن «فكرة» زوكربيرغ صفراً مكعباً.
ثالثاً: «فيسبوك» لا تشغّله «فكرة» زوكربيرغ المعلقة بالهواء، بل ما يزيد عن أربعين ألف عامل، ومقدار ضخم من «البنية التحتية» الفيزيائية والملموسة، المتمثلة بالمخدمات التي تقدر قيمتها بمليارات الدولارات.
ما يلفت الانتباه، وبعيداً عن مادة السيد مسعود، هو أنّ بعض المقالات المتفرقة تظهر في الآونة الأخيرة على بعض المواقع العربية محاولة الدفاع الاستباقي ضد الإقبال الجديد لدى الناس نحو أفكار العدالة الاجتماعية، الأفكار التي عززها تهاوي النموذج الغربي في أعين الغربيين قبل غيرهم نتيجة انكشاف هشاشة البنى النيوليبرالية ووحشيتها اتجاه الناس في آن معاً.
يمكن تشبيه محاولات البعض الدفاع عن النموذج الغربي هذه الأيام، بأنه نمط من الوسواس القهري؛ حيث يعلم المريض ضمنياً بأن لا فائدة من التكرار الهستيري للكلام أو الفعل الأحمق نفسه، لكنه مع ذلك لا يستطيع كبح جماح نفسه..
المصدر: بروكار برس