وداعاً لإمبراطورية الانغلوساكسون
ألكسندر نازاروف ألكسندر نازاروف

وداعاً لإمبراطورية الانغلوساكسون

في السنوات القليلة الماضية، احتلت روسيا مساحة هائلة في أذهان الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى.

بل مكانة أكبر مما يطمح إليه الروس أنفسهم أو حتى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.

لماذا؟

تضرب جذور الكراهية البريطانية لروسيا في عمق التاريخ، فقد غزت بريطانيا روسيا أكثر من مرة، لكن روسيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تمكنت من مقاومة التوسع الاستعماري لبريطانيا العظمى وللغرب بشكل عام. علاوة على ذلك، كان الاتحاد السوفيتي يقدم دعما ومساعدات كبيرة للشعوب التي تقاتل المستعمرين البريطانيين من أجل الاستقلال. ولكن، وعلى الرغم من وجود أسباب وجيهة لهذه الكراهية لدى بريطانيا، إلا أنها تسوق أسبابا مختلفة تماما في العلن.

تكيل بريطانيا الاتهامات للآخرين بما تضمره أو تقوم هي نفسها به، بينما تفعل ذلك بتهكم فوقي متعال يليق بمستعمر قديم. لقد قام الجيش البريطاني، نهاية الحرب العالمية الثانية، وبناء على أوامر من رئيس الوزراء آنذاك، ونستون تشرشل، بتطوير خطة للهجوم على الاتحاد السوفيتي، سميت بـ "العملية التي لا تخطر على بال" Operation Unthinkable، ولكن تشرشل فقد السلطة حينها، لحسن الحظ، ولم تقع الحرب العالمية الثالثة.

اليوم، وبينما تشارك بريطانيا في التدخلات العسكرية والانقلابات و"الثورات الملونة"، توجه مع ذلك أصابع الاتهام لروسيا بـ "العدوان" و"التدخل" في شؤونها.

لكن السنوات الأخيرة حملت للمملكة المتحدة والغرب بشكل عام سببا جديدا لكراهية روسيا. فبعد ما نجحت روسيا في النهوض من عثرتها بعد تسعينيات القرن الماضي، بدأت، شأنها في ذلك شأن الاتحاد السوفيتي، في طرح بديلا للعالم الذي بناه الأنغلوساكسون. لتواجه بريطانيا بوتين، جهارا نهارا، بالتوقف عن تقويض النظام العالمي.

ويتساءل المرء هنا: ما هي طبيعة هذا "التقويض"، وما السر وراء رد الفعل المبالغ فيه عليه؟ فروسيا، في نهاية المطاف، لا يمكن أن تتحدى الغرب اقتصاديا، بل وتعتمد عليه. وعسكريا، تعد روسيا أضعف من الناتو بعدة مرات، ولا يمكنها، بحكم المنطق والتعريف، المبادرة بأي عدوان على الغرب. لا تستطيع روسيا فرض إرادتها على الغرب بأي شكل.

لكن الأمر يعود، ببساطة، إلى أن الإمبراطورية الأنغلوساكسونية، شأنها شأن أي إمبراطورية كبيرة، في سبيلها إلى الانهيار من داخلها، تحت وطأة التشوهات الاقتصادية الخاصة والمتراكمة والعلاقات الاجتماعية المنحرفة وغير القابلة للاستمرار والحياة. وذلك لا يندرج تحت مسمى صراع الأيديولوجيات السياسية، خاصة وأن روسيا، على العكس من الاتحاد السوفيتي، لم يعد لديها أيديولوجيا في الوقت الراهن. لذلك فالحديث هنا يدور حول ما هو أعمق بكثير من ذلك، يدور حول انهيار منظومة القيم.

تتبنى روسيا نموذج الدولة القوية التي تستند إلى قيم تقليدية محافظة، فهي ترفض القبول بزواج المثليين، وتحافظ على قيمة الأسرة كإحدى القيم التي لا جدال عليها، وتقترح وتدافع عن تلك الرؤية كبديل.

ويصل الأمر إلى حد الهزل، حينما يلقي بوتين بعبارة حول انهيار الليبرالية، وأنا على يقين أنه نسيها بعد بضع دقائق. لكن ذلك يخلق فجأة موجة هائلة من التعليقات والتنظير والبحث عن المآلات في الغرب، حيث يحاول كل صحفي وسياسي الاعتراض عليه، ودحض وجهة نظره، واتهامه بالتدخل في شؤون بلاده، وتقويض أسس المجتمع الغربي، والنظام العالمي. وكما هو الحال دائما، تعزف النغمة الأولى من هذه السيمفونية الكبيرة بريطانيا العظمى.

دعونا نتذكر قصة الفتاة غريتا تونبرغ، التي لاحظ بوتين أنها لا زالت صغيرة جدا، ولا تتصور التشابكات المعقدة لعالم اليوم، هذا كل ما في الأمر. لكن الدنيا قامت ولم تقعد، واندلعت موجة هيستيريا لا زال دخانها يلوح في أفق الماضي القريب، ودشن الغرب كله "حملة صليبية" للهجوم على بوتين، ودحض آرائه، بل وتوبيخه لتجرأه على تونبرغ.

أو لنأخذ النهج البريطاني السابق للتعامل مع جائحة فيروس كورونا، بعدم مواجهته ومكافحته، والاعتماد على "مناعة القطيع". لقد تسبب هذا النهج في وضع بريطانيا على قائمة الدول التي تعاني الآن من أكبر عدد من المرضى والوفيات، بعد ذلك اضطرت السلطات إلى تغيير نهجها في التعامل مع الجائحة، وإدخال قيود مماثلة لتلك المستخدمة في روسيا. وعلى الرغم من ذلك، واصلت الصحافة البريطانية عن إلقاء قاذوراتها على روسيا قبل وبعد تغيير نهج بريطانيا في التعامل مع الأزمة. حينما يقوم البلدان بنفس الإجراء، فإن بوتين سيء، والسلطات البريطانية رائعة.

يقول المثل الروسي القديم: "ليست البلية في أن بقرتي مريضة، وإنما البلية في أن بقرة جاري سليمة"، هذا ما تحتاجه النخبة البريطانية حقا: أن يكون الوضع في روسيا أسوأ مما هو عليه في المملكة المتحدة، لأنه إذا ما حدث خلاف ذلك، فهو تأكيد على وجود بدائل أخرى، بما في ذلك ما يتعلق بطرق مكافحة الفيروس. من الناحية الموضوعية، فإن الوضع في روسيا من حيث مكافحة الفيروس أفضل منه في روسيا من بريطانيا، على الرغم من حقيقة أن مساحة وعدد سكان روسيا أكبر كثيرا من مساحة وعدد سكان بريطانيا، وروسيا أفقر من بريطانيا، إلا أنا ما يبدو للعيان أن النظام البريطاني وتعامله مع الأزمة كان أقل كفاءة من موقف روسيا من الأزمة. لكن الصحافة البريطانية تحاول ما بوسعها لخلق انطباع معاكس.

لدي قناعة أن الوضع الحالي يشبه حياة قرية صغيرة في مقاطعة نائية، يناقشون فيها حدثا "هاما" وقع في العاصمة، لأسابيع بعد أن نسيه أهل العاصمة في اليوم التالي. إنها علامة من علامات الريفية وانطفاء الغرب. لا علاقة لروسيا هنا بأي شيء، فهي لا تشن أي حروب أيديولوجية، ولا تدعي بأي حال من الأحوال أنها مهيمنة على العالم، كل ما هنالك أنها تحافظ على قيمها ومبادئها وتختار طريقا خاصا بها. ليس ذلك انتصارا لروسيا الدولة، وإنما انتصار للقيم المشتركة بين روسيا والحضارة العربية.

نتذكر جميعا المراحل الخمس لقبول ما هو حتمي: الإنكار ثم الغضب ثم المساومة ثم الاكتئاب ثم القبول. إن العالم القديم في طريقه للانهيار والغرب ينتقل الآن من المرحلة الأولى إلى الثانية. لم يحالف روسيا الحظ كي تكون مادة الغضب الغربي، لكن لديها ما يكفي من القوة، حمدا لله، لتحمل الضغط، وانتظار المراحل المتبقية.