لماذا لا نزال نستخدم السوق؟
غرف فنادق فارغة، ورفوف متاجر خاوية، ومعامل تصنّع محركات للطائرات والسيارات الفارهة بدلاً من منافس التهوية، والحكومات تتنافس مع بعضها بشراء معدات الفحص والأقنعة الواقية. لا يبدو تنظيم المجتمع على هذه الشاكلة منطقيّ البتّة.
بقلم: جوردان هومفريز – تعريب: عروة درويش
معدات الفحص هي واحدة من أكثر الأدوات الأساسية التي نحتاجها لمقارعة انتشار كوفيد-19. لكن حتّى البلدان الأكثر ثراء تكافح لإنتاج الحد الأدنى المطلوب لتجهيز الطواقم الطبية على الجبهات من أجل الحد من انتشار الفيروس.
حتّى مع تحول الحكومات إلى مسار الإنتاج السريع للمعدات الطبية وقطع الحماية، فلا تزال تعاني من الحقيقة البسيطة أنّ الاقتصاد العالمي ليس مصمماً لاستيعاب القيام بمثل هذه المهمة.
تعاني الكثير من البلدان من شحّ المواد الكاشفة الكيميائية، وهي الجزء الجوهري في معدات الفحص. سوق الكواشف الكيميائية تهيمن عليه شركة هولندية اشترتها عملاقة الصناعة الدوائية الشركة الأمريكية «Thermo Fisher Scientific» ومختبرات روشيه التي تتخذ من سويسرا بلداً لإقامتها. ومثلها بذلك كبقية الشركات، تمحور هذه الشركات الاحتكارية عملها حول الإنتاج «في الوقت المطلوب» – أي أنّها تنتج البضائع بكميات كافية لبيعها في الأسواق على الفور وحسب. وهذه الطريقة في العمل تستبعد تماماً بناء مخزون من البضائع الطبية كتحضير للأزمات المستقبلية.
بالنسبة لاقتصاد سوقنا الرأسمالية، فالمبدأ الرئيسي هو الوصف الذي قاله المدير التنفيذي لشركة آبل تيم كوك: «المخزون شرّ بطبيعته». وهذا هو السبب الذي يجعل الحكومة الأسترالية، بعد شهرين من أزمة كوفيد-19، تطلب من الجامعات أن تبحث في مختبراتها ومخازنها عن معدات طبية غير مستخدمة. ففي النهاية، ما السبب الذي سيدفع الشركات لإنتاج مئات آلاف معدات الفحص الإضافية ثمّ تكديسها في المخازن؟ لا تبدو هذه الاستراتيجية منطقية إلّا إن كنت تتحضر لوباء مستقبلي يمكن توقع قدومه.
ولا يقتصر الأمر على نقص المعدات الطبية الضرورية الذي لم تستطع السوق أن تلبي حاجاته. تسببت الأزمة الاقتصادية الحالية بوضع جميع التحديات التي جعلت المجتمع الرأسمالي عاجزاً عن التعامل مع أيّ منها.
قيل لنا جميعاً أن نبقى في منازلنا بأكبر قدر مستطاع لإيقاف انتشار الفيروس، لكن ماذا عن جموع المشردين على طول العالم؟ فحتى في البلدان التي يفترض ثرائها مثل أستراليا يشكل الأمر مشكلة كبيرة. فوفقاً لآخر الإحصاءات الرسمية: هناك 116 ألف مشرد. ولا يقتصر الأمر على المشردين، بل يتعداه إلى الأعداد الهائلة ممن يعيشون في مساكن مفرطة الاكتظاظ. وذات الإحصاءات تظهر لنا بأنّ هناك أكثر من مليون شقّة فارغة.
الحل يحدّق فينا جميعنا بشكل مباشر. لكن رغم ذلك لا تزال قواعد السوق تقف في وجه أيّ خطة منطقية – مثل أن نسكن المشردين في المساكن الفارغة. إنّ أفضل ما يمكن للحكومات أن تفكر فيه هو أن تدفع المال للفنادق مقابل استخدامها بشكل مؤقت. لماذا لا تستولي على بعض هذه الممتلكات الفارغة؟ ألن يكون هذا أفضل من وضع هؤلاء الأشخاص في غرف فنادق مزدحمة ثمّ إلقائهم في الشارع من جديد في وقت لاحق؟
في كلّ مرحلة يتضح بأنّ الوصول إلى الغذاء والموارد المنزلية الرئيسية يقف في ذات الصف مع ذات المشكلة. وضع انتشار فيروس كورونا مشاكل أمام نتاج ونقل الغذاء. حذرت الأمم المتحدة من إمكانية حدوث نقص في الغذاء. تتفاقم هذه المشاكل جرّاء الطبيعة التنافسية والمدفوعة بالربح لسوق الغذاء العالمي. فرغم مدى الجنون الذي يبدو عليه الأمر، فالغذاء لا يتم إنتاجه بغرض إطعام الناس، بل بغرض بيع في السوق. كلّ خطوة في صناعة الأغذية – بدءاً من المزارع وصولاً للسوق العالمية – قد تمّت هيكلتها لتدور حول هذا المبدأ.
في الحقيقة، كل مسائل التأقلم مع السوق وقوانين العرض والطلب والقوة الهائلة للشركات متعددة الجنسيات قد أنشأ نظام إنتاج غذائي جامد يعاني لعدم قدرته على التغيّر. والسبب الرئيسي في ذلك أنّه ليس منتجاً للتخطيط الديمقراطي بل حصيلة قوى فوضوية تكافح بين الشركات العالمية.
لماذا لا يمكننا الحصول على نظام ديمقراطي مخطط له يحث يتم نقل جميع البضائع المنزلية من الغذاء وغيره بشكل آمن إلى منازلنا؟ أو وضعها في أماكن محددة ينطلق إليها أهالي الأحياء بأوقات منظمة لا تجعلهم عرضة للتجمعات المكتظة في المتاجر وغيرها؟ السبب الوحيد لعدم فعل ذلك هو أنّ الشركات لن تكون عندها قادرة على تحصيل الأرباح بالسهولة التي تقوم بذلك بها اليوم.
إنّ أيّ جهد يتم اليوم للتصدي لانتشار كوفيد-19 محدود بالالتزام بهذا النظام الاقتصادي العالمي المبني حول التبادل الخاص للبضائع في السوق. وحتّى عندما تتدخل الحكومات في السوق لإنتاج ما هو ضروري لمحاربة كوفيد-19، فهي تفعل ذلك بأيد مكبلة مربوطة بحبل تمسكه الشركات الكبرى. فالحكومات اليوم تنفق الملايين والملايين من الدولارات لتنقذ شركات الطيران على سبيل المثال، رغم أنّ صناعة الطيران قد استمرت لعقود وهي تجني الأرباح الهائلة وتثري مالكيها دون أن تدفع أيّ شيء ذو قيمة لطواقهما أو لعمالها.
الإنتاج بهدف البيع في السوق بدلاً من الإنتاج لتلبية احتياجات البشر هو سمة جوهرية في المجتمع الرأسمالي. وهذا النوع يتعايش بسهولة مع دولة بيروقراطية تهيمن عليها مصالح الشركات الكبرى. نحتاج لنوع مجتمع مختلف، مجتمع منظم يكون فيه الإنتاج منظم بحيث يخدم مصالح الجميع وليس ربح الأقلية.